" هناك من كانوا يسيرون وذِكر العقيدة على شفاههم , كلٌ طبقاً لإيمانه , كل إنسان له الحق في حب وحماية الله له , وإن كان في حالة اللصوص فإن عقيدتهم أن من غادر بيته ليس له الحق في الحياة واستغلالها , إنه حكم عادل جداً , والحقيقة قائمة , فكل واحد يقرر ما سيجده في الأمثلة حسب مصالحه " جوزيه ساراماجو
حياكم الله , دائماً ما اتسائل عن سر إحجام السفارات عن طريق مكاتبها الثقافية التابعة لها عن دعم الأنشطة الثقافية في بلدي كما يحدث في جميع بلدان العالم , فأنا لم أسمع يوماً على سبيل المثال أن قام المجلس البريطاني بإقامة أي نشاط ثقافي في الرياض أو جدة أو الدمام المدن التي تتواجد فيه مكاتبه حسب مايقول . أو مساعدة المركز الثقافي الفرنسي أو الإيطالي جهة ثقافية بإقامة فعاليات أي كان نوعها , هذا إن كان يوجد لهم مكاتب في الرياض من الأساس . هنا في القاهرة نشاطات هذه المكاتب لا تتوقف على مدار السنة , وأذكر في مهرجان الجاز على سبيل الذكر لا الحصر أن دعمته خمسة عشر جهة دولية . هل تستوعبون الرقم ؟ من دون ذكر الشركات الكبرى الراعية , حتى أن هناك مقهى كان من الداعمين لهذا المهرجان ! الجدير بالذكر أن المهرجان كان بسيطاً لأبعد الحدود , حضرت بعض حفلاته كانت المسارح صغيرة وعادية بل أقل من عادية , بإستثناء الأوبرا . لو تأملنا لوجدنا أن هذه الأنشطة غير مكلفة , وحينما تدعمها سفارات دول وشركات كبرى كشركة إعمار وسلسلة فنادق كالماريوت و وزارات كوزارة الثقافة و وزارة السياحة وغيرهم فإن التكلفة لا تكاد تذكر . السؤال لماذا لا يحدث هذا في بلدي ؟ وأعتقد أن الإجابة أن مجتمعنا لا يزال يرسخ تحت وطأة التخلف والرجعية التي تحيط به من كل جانب , وتدعمها جهات أقل ما يقال عنها أنها غير حضارية كهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , حتى أن إقامة أي نشاط ثقافي عالمي ذو قيمة يعد ضرباً من المستحيل . طيب , لعلنا جميعاً مقتنعين أن هذه الجهات هي السبب , ولكن كيف السبيل إلى إزاحتها قليلاً عن طريقنا ؟ والإجابة أن هذا هو المستحيل بذاته , وأسوق إليكم هذه القصة التي حدثت معي لتعرفوا أن وضعنا مزري وأكثر من مزري . في التعديلات الوزارية الأخيرة وتغيير رئيس الهيئة كنت حينها عند أحد اصدقائي , قلت مازحاً لو أنهم قاموا بإلغاءها من الأساس لكان أفضل ؛ لم أنهي جملتي تلك حتى بدأت الشتائم تصلني من كل جانب , أقلّها " لا يطالب بإلغاء الهيئة إلا فاسد " سألته : يعني أنا فاسد ؟ طبعاً التبرير جاهز هنا " أنا لا أقصدك أنت بل أتحدث بشكل عام " . المشكلة أن من يدافع عن الهيئة هنا لا أريد وصفه " بالمنحل أخلاقياً " ولكن يكفي أني لم أره يوماً يصلي ركعةً لله , أما أنا الذي لم أفوّت فرضاً , ولم أعصي الله بإرتكاب الحرام , حتى أني لا أدخن أُتهم بالفساد , والسبب أني طلبت مازحاً أن تلغى الهيئة . أحد المدافعين عنها غير صاحبي هذا كان يتحدث والسيجارة لا تفارق شفتيه . تهمني كثيراً هذه التفاصيل فهي تبين بوضوح مدى التناقض الفظيع الذي يعيشه مجتمعنا , شخص لم أره يصلي يوماً وحياته تكمن في الركض خلف النساء يدافع عن حرّاس الفضيلة . عن أي فضيلة تتحدث يغفر الله لك ؟ حينما تدافع عن شيء أنت بالتأكيد تدافع عن مبدأ أنت مقتنع به تمام الإقتناع , لكن هذا غير حاصل ؛ ما توصلت إليه بعد هذه المحادثة اللطيفة أن الدين ليس برادع لهؤلاء الأشخاص , وإنما العادات والتقاليد فقط , فهو حينما يدافع عن الهيئة ليس دفاعاً عنها وعن أهدافها ومبادئها , وإنما دفاعاً عن نفسه أمام الناس , والغريب أن الناس تجده الخلوق وتجدني أنا الفاسد المنحّل , هذا هو مجتمعنا يا سادة . الشيء الوحيد الذي لم أقله لهم هو أنكم تعتقدون أن الناس جميعاً مثلكم وأنهم منحلّون لذلك كان وجود هيئة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر هو أمر لابد منه " حمايةً لأعراض الناس " من الآخرين . لم أخرج عن السياق فهذا كله في صلب موضوعي الرئيس , هناك فئات مهما كانت متعلمة إلا أن تفكيرها لا يزال منغلقاً . والناس بطبيعة الحال تعادي ماتجهل , إني أتفهم أن تكون هناك معارضة لأي نشاط ثقافي و فني , لكن مالا أفهمه هو خنق الناس والتحجير عليهم ومنعهم من القيام بأي نشاط يخالف توجهات هذه الفئة مهما كان نوعه . الهيئة على سبيل المثال وصل بها الأمر إلى ( القتل ) والضرب عدا عن اقتحام البيوت واتهام الناس والاعتداء على حرياتهم الشخصية وبالرغم من ذلك تجد أن هناك من يستميت بالدفاع عنها , وكأن الناس بهائم لا يردعهم إلا الهيئة . وبالمقابل نجد أن أقلية ترغب في تنوير المجتمع بما لايتعارض مع حريات الأخرين وبلا قتل واعتداء نجد الهجوم عليهم من كل جانب . طيب أنا لا أتدخل في عملكم , احرسوا الفضيلة كما تشاءون , لكن لماذا تمنعوني من إقامة حفل موسيقي على سبيل المثال ؟ لأن الموسيقى كفر ويجب حراسة المجتمع الطاهر منها ؟ هنا في القاهرة حضرت بعض الحفلات في حديقة الأزهر , هل تصدقون ذلك ؟ اي والله .. يوجد هناك مسرح جميل يقام عليه الكثير من الحفلات الغنائية المحترمة والأمسيات وغيره , ورغم ذلك لم يخرج يوماً شيخ الأزهر أو المفتي لينهى الناس عن ذلك حفاظاً على اسم الأزهر من التدنيس , عوضاً عن تحريمه وتجريم الناس وتكفيرهم . لماذا يحدث في بلدي وحده دون سائر بلدان الدنيا أن تعتدي جماعة بالضرب على ممثلين من أجل مسرحية تعارض فكرهم ؟ أو تعتدي على مثقفين من أجل كتاب لم يرق لهم ؟ لماذا في بلدي يحصل أن تهدد جماعة بقتل رئيس نادي أدبي فقط لأنه سيقيم أمسية تحييها شاعرة ؟ نحن لا نعيش في عصر الظلمات وحسب , نحن في الدرك الأسفل منها .