Archive for مارس, 2008

نستولوجيا !

السبت, مارس 29th, 2008

الآن .. أكتب ورائحة الجاردينيا تملأ جنبات المنزل , ورثت حب النباتات من والدتي و من جدي كذلك , ارتبط حب النباتات بالنسبة لي بهم , حينما أتحدث مع والدتي عنها وابدأ باستعراض معلوماتي عنها والتفاخر بمعرفتي , تفاجئني بإحضار أنواع لم يخطر على بالي يوماً أنها موجودة ! , هناك أشياء صغيرة هي التي تمنعك من التكبر بما تعرف , لا يمكن أن يحيط إنسان بكل شيء , وإن قدّر له ذلك فمن المستحيل أن يدركها , الآن .. أكتب على الورقة و بالقلم , هذه المرة الأولى التي أفعل بها ذلك , وعيت على نفسي وأنا أكتب على الكمبيوتر وأملك كمبيوتر منذ ( صخر ) الذي تعلمت الحروف الهجائية عليه وكان رفيقي , الكتابة على الكمبيوتر ليست سيئة بالتأكيد , والزمن متغير لا يثبت , والواجب علينا مجاراته حتى لا نفشل , من سبقنا من الجيل الذي قبلنا كانوا يكتبون على الآلات الكاتبة , ولا أدري من سبقهم على ماذا كانوا يكتبون , ولكن يبقى القلم ويذهب غيره , هو باقٍ منذ اليوم الأول الذي بدأ فيه ربنا عز وجل بخلق المخلوقات , يبقى القلم الأقرب إلى القلب والأشد ألفة مهما ذهبنا إلى غيره , لا رائحة لما نكتبه بالكمبيوتر ولكن للحبر رائحة , الرائحة هي ما يجعل الأشياء قريبة منا , لا نستطيع تذكر شيء لا رائحة له ! الآن .. ورغم أني أكتب في الصباح إلا أن الجو جميل وهناك نسمات باردة تأتي وتذهب , بخلاف الأسبوع الماضي الذي كان جحيماً لا يطاق , لا شيء قادر على تشويه يومي كالجو الحار , تبدأ كل تصرفاتي تلبس لبوس السوء , لا أدري إن كنت ترابياً أم هوائياً , ولكن سأكون أكثر اقتناعاً لو كنت هوائياً , رغم ارتباطي الوثيق بالتراب الذي أعتقد أني أنتمي إليه – إن لم أكن مخطئاً – والذي ربما يغني لي الآن " القصة مش طقس يا حبيبي ! " , الآن .. يحوم حولي ما كنت أفكر فيه منذ الأمس ( من يحب لا يؤذي ) , كنت أفكر كثيراً بمن يحبون بعضهم وبالرغم من ذلك تتحول حياتهم إلى أذى متبادل ومشاكل لا تنتهي , لا استطيع أن أسمي هذا حباً ( فمن يحب لا يؤذي ) , لست أنا المخول بالكتابة عن الحب , فأنا من السوء الذي يجعلني آخر من يتحدث عنه , ولكن لنتحدث عن الحب بمفهومه الواسع : هل تحب وطنك وتتمنى دماره !؟ هل تحب والديك وأنت تعقهم !؟ لا يمكن أن يكون هذا حباً بأي حال من الأحوال , أن تحب هذا يحتم عليك أن تملأ قلب من تحب بالفرح , وأن تكون أنت دواءه لا داءه والسبب في ألمه , هذا يشبه أن تقول أنا لا أؤمن بالله ولكن أريد أن أدخل جنته , كيف تطلب أن تدخل جنة من لا تؤمن بوجوده أساساً !؟ – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – , كذلك الحب كيف تحب وأنت تؤذي من تحب , عندما يصل الأمر لهذا الحد الأحرى بك أن تنسحب , أن تعيش في وحدة خيرٌ لك من أن تعيش في أذى أو تكون سبباً في أذى ..! , الآن .. وقمح !

الصحراء ..

الأربعاء, مارس 26th, 2008

يقيناً , إن الحياة هي إلى حد ما نقيض التعبير . وإذا ما صدق كبار الرسامين التوسكانيين , فإنها الشهادة ثلاث مرات في الصمت , و السعير , والسكون . لابد من زمن طويل لندرك أننا نصادف شخصيات  لوحاتهم كل يوم في شوارع فلورنسا أو بيزا , لكننا بتنا أيضاً لا نعرف كيف نميز الوجوه الحقيقية لمن يحيط بنا , لقد بتنا لا ننظر إلى معاصرينا , ولا يستوقفنا فيهم إلا ما يرشد خطانا , وينظم مسلكنا . إننا نفضل على الوجه ما فيه من شاعرية مبتذلة . أما جيوتو وبييرو ديلا فرانشسكا , فقد كانا يعرفان حق المعرفة أن حساسية إنسان ما ليست شيئاً , وفي الحقيقة إن لجميع الناس قدراً من العاطفة , لكن العواطف الكبيرة والبسيطة والخالدة التي يدور حولها حب الحياة , والبغضاء , والحب , والدموع , والأفراح , تنمو في أعماق الإنسان وتنحت وجه مصيره – كما في لوحة دفن المسيح لجيوتينو وآلام مريم الصارفة بأسنانها – , صحيح أني أرى في كنائس توسكانيا الفسيحة جماً غفيراً من ملائكة وجوههم منقولة عن بعضها بعضاً إلى مالا نهاية , لكني أتعرف في كل وجه من هذه الوجوه الصامتة الوالهة عزلة ووحدة . قد تكون المسألة فعلاً مسألة تصوير بارع , أو مشهد أخاذ , أو فروق دقيقة , أو إثارة انفعال , وقد تكون مسألة شعر , لكن إنما المهم هو الحقيقة , وإني لأسمي حقيقةً كل ما يستمر , ومن هذا المنظور فقد نحتاج إلى قدر من رهافة الفكر لنستنتج أن الرسامين وحدهم يستطيعون إرواء ظمئنا إلى هذه الحقيقة , ذلك أن لهم امتيازاً : فقد جعلوا من أنفسهم روائيي الجسم , ثم إنهم يشتغلون بتلك المادة العظيمة والزهيدة التي تدعى الحاضر , والحاضر يرتسم دوماً في بادرة , إنهم لا يرسمون ابتسامة أو حياءً عابراً , حسرة أو انتظاراً , بل وجهاً بكل بروز عظامه وحرارة دمه , لقد طردوا إلى الأبد هذه الوجوه الجامدة في خطوط أزلية لعنة الروح على حساب الأمل . ذلك أن الجسم يجهل الأمل , إنه لا يعرف إلا نبضات دمه , إن الأبدية الخاصة به قائمة على اللامبالاة , كما في " جلد المسيح " لبييرو ديلا فرانشسكا حيث يشف كل من المسيح المعذب والجلاد الغليظ الجثة بوضعيتهما داخل باحة مغسولة حديثاً عن التجرد ذاته , ذلك أن العذاب ليس له تتمة , وأمثولته تتوقف عند إطار اللوحة , فما الداعي لأن ينفعل من لا ينتظر غداً ؟ إن عدم التأثر هذا وعظمة الإنسان الذي بلا أمل هذه , إن الحاضر الأبدي , هو ما سماه اللاهوتيون المتبحرون بالجحيم , والجحيم كما لا يجهل ذلك أحد , هو أيضاً الجسد الذي يتوجع , إنما عند هذا الجسد يتوقف التوسكانيون  لا عند مصيره . ليست هناك رسوم تنبؤية , وليست المتاحف مكاناً للبحث عن أسباب للأمل . حقاً إن خلود النفس يشغل – حتى قبل أن يستهلكوا نسغها – تفكير الكثير من المفكرين ذوي الإرادة الطيبة , لكن ذلك لأنهم يرفضون الحقيقة الوحيدة المعطاة لهم والتي هي الجسد , ذلك أن الجسد لا يطرح عليهم مشكلات أو إنهم على الأقل يعرفون الحل الوحيد الذي يقترحه : إنه حقيقة يجب أن تفنى . ومن هنا كانت له مرارة ونبل الذين لا يجرؤون على النظر إليهما وجهاً لوجه , إن المفكرين ذوي الإرادة الطيبة يؤثرون عليه الشعر , لأنه من مشاغل الروح , وقد يكون مفهوماً أنني أتلاعب بالألفاظ , لكم من المفهوم أيضاً أنني أريد في الحقيقة أن أكرس شعراً أكثر سمواً : الشعلة السوداء التي رفعها الرسامون الإيطاليون من تشيمابوي إلى فرانشسكا بين المشاهد التوسكانية الطبيعية وكأنها احتجاج صاح للإنسان الملقى به على أرض تحدثه عظمتها وضياؤها بلا انقطاع عن إله لا وجود له . ولفرط اللامبالاة واللاحساسية قد يتوصل وجه ما إلى بلوغ العظمة الجمادية لمشهد طبيعي ما , وكما يتوصل بعض فلاحي إسبانيا إلى أن يشبهوا أشجار زيتون أراضيهم , كذلك تتمكن وجوه جيوتو وقد تعرت من الظلال الباهتة التي تتجلى فيها الروح , من الاندماج بتوسكانيا نفسها من خلال الأمثولة الوحيدة التي تفيض بها : ممارسة الهوى على حساب الانفعال , مزيج من النسك والتمتع , تجاوب مشترك بين الأرض والإنسان , يتحدد الإنسان به كالأرض , في منتصف الطريق بين البؤس والحب . ليس من ثمة حقائق كثيرة يركن إليها الإنسان , ولقد عرفت بداهة هذه الحقيقة مساء يوم أخذ فيه الغسق يغرق الكروم وأشجار الزيتون في ريف فلورنسا بكآبة صامتة جليلة , لكن الكآبة في هذا البلد ليست إلا شرحاً للجمال , وفي القطار الذي كان ينسل عبر المساء كنت أشعر بشيء ما تنحل عقدته فيّ , أأستطيع أن أشك اليوم أن ذلك يسمى إلى جانب وجه الكآبة , السعادة ؟ أجل , إن الأمثولة التي يصورها هؤلاء الرسامون , تقدمها إيطاليا أيضاً من خلال مناظرها الطبيعية , لكن من السهل أن تفوتنا السعادة بإعتبار أنها على الدوام غير مستحقة , كذلك شأن إيطاليا , ففتنتها وإن كانت مفاجئة , ليس فورية دوماً , إنها تدعو أكثر من أي بلد آخر إلى تعميق التجربة التي يبدو عليها وكأنها تسلمها من المرة الأولى كاملة , ذلك أنها لا تفيض بالشعر إلا لتخفي حقيقتها بمهارة أكبر , إن تعاويذها الأولى هي طقوس نسيان : أشجار الدفلى في موناكو , جنوى المليئة بالزهور وروائح السمك , والأمسيات الزرق على الشاطئ الليجوري , وأخيراً بيزا ومعها إيطاليا التي أضاعت سحر الريفييرا السوقي قليلاً , لكنها تبقى سهلة المنال , فلمَ لا نرتضي لهنيهة من الزمن بفتنتها الحسية ؟ أمّا عني أنا الذي لا يقسرني شيء حين أكون هنا ( والمحروم من أفراح المسافر الملتاع لأن تذكرة منخفضة السعر تقسرني على البقاء مدة من الزمن في المدينة " التي أختار " ) , فإن صبري على الحب وعلى الفهم يبدو لي بلا حدود هذا المساء الأول الذي دخلت فيه بيزا متعباً جائعاً , فاستقبلتني على رصيف المحطة عشرة من مكبرات الصوت تزعق وتصب موجة من الأغاني العاطفية على جمهرة من الناس معظمهم من الشبان , إنني أعرف من الآن ما ينتظرني , فبعد هذا التوثب بالحياة , ستأتي لحظة فريدة حين تغلق المقاهي أبوابها ويستتب الصمت من جديد فجأة , وأحث الخطى من شوارع قصيرة ومعتمة نحو قلب المدينة , نهر الأرنو الأسود الذهبي , الأنصاب الصفر والخضر , المدينة المقفرة , كيف أصف هذه الحيلة المفاجئة والبارعة اتي تنقلب بها بيزا الساعة العاشرة مساء إلى ديكور غريب من الصمت , والماء , والحجارة ؟ " كان ذلك في ليلة مماثلة , يا جيسكا ! " , هاهي الآلهة تتجلى على هذا المسرح الفريد في نوعه , بصوت عشاق شكسبير .. علينا أن نعرف كيف نرضى بالحلم حين يرضى الحلم بنا , إنني أشعر من الآن في أعماق هذا الليل الإيطالي بالألحان الأولى لهذا النشيد الباطني الذي يأتي الناس إلى هنا بحثاً عنه . غداً , غداً فقط , سيتآلف الريح مع الصباح , أما هذا المساء فها أنا ذا إله بين الآلهة , وأمام جيسكا التي تهرب بـ " خطى يحملها الحب " , أضم صوتي إلى صوت لورانزو , لكن جيسكا ليست إلا ذريعة , واندفاعة الحب هذه تتجاوزها . أجل أعتقد ذلك , فـ لورانزو لا يحبها بقدر ما يعترف لها بالجميل لسماحها له بالحب , لكن لماذا أفكر هذا المساء بعاشقي البندقية وأنسى فيرونا ؟ ذلك أن لا شيء هنا أيضاً يدعو إلى التعلق بعشاق تعساء , فلا شيء باطل كأن يموت المرء من أجل حب , إنما الحياة أجدر به . ولورانزو حياً خير من روميو دفيناً تحت الثرى رغماً عن شجرة الورد فوق ضريحه , فكيف إذاً لا أرقص في هذه الأعياد للحب الحي , وأنام بعد الظهر على العشب الطفل في بيازا ديل ديومو , بين الأنصاب التي يتوفر الوقت دوماً لزيارتها , وأشرب من عيون المدينة حين يكون الماء ساخناً بعض الشيء لكن سلسبيلاً , وأرى من جديد وجه تلك المرأة التي كانت تضحك , بأنفها الطويل وفمها المزهو , يجب أن نفهم فقط أن الطقس يهيئ لإشراقاتٍ أسمى , إنها المواكب المتألقة التي تقود مريدي ديونيزيوس إلى معبد ايلوزيس , إنما في الفرح يحضّر الإنسان دروسه , وحين يبلغ الجسد أسمى درجة من النشوة يضحك واعياً ويكرس اتحاده بسر مقدس رمزه الدم الأسود , وهاهو نسيان الذات الذي أنهله من حميا إيطاليا الأولى هذه , يهيئني لهذا الدرس الذي يحررنا من الأمل ويخطفنا من ماضينا , يا لحقيقة اللحظة والجسم المزدوجة : فكيف لا نتشبث بمشهد الجمال تشبثنا بالسعادة الوحيدة المنتظرة , التي ستسحرنا , لكن التي ستفنينا في الوقت نفسه !

ألبير كامو

أحلام واقعية ,

الأربعاء, مارس 12th, 2008

" أعتقد أنه ليس على القاص أو الشاعر مطلقاً أن يقدم أية تفسيرات لعمله , فالنص بمثابة آلة تخيلية لإثارة عمليات التفسير . وعندما يكون هناك تساؤل بخصوص نص ما , فمن غير المناسب التوجه به إلى المؤلف "
النص المقتبس السابق هو من إحدى المحاضرات التي ألقاها أمبرتو إيكو على طلبة الدراسات العليا بالأكاديمية الإيطالية في الولايات المتحدة الأمريكية بعنوان ( المؤلف ومفسروه ) , ما تحدث عنه في هذه المحاضرة ذو أهمية بالغة لمن كانت له اهتمامات في هذين المجالين أعلاه خصوصاً القصة والرواية , ما أودّ التحدث عنه الآن , و ما لفت انتباهي كثيراً هو ببساطة أن الرواية عند الكتّاب الغربيين ليست بالسهولة التي نجدها عند كتّابنا العرب مع احترامي الشديد لهم ولما يقومون به من عمل جميل , الرواية هناك مُتعبة تستهلك كثيراً من أوقاتهم وفكرهم و ربما تدوم كتابة رواية بـ 200 صفحة عشرة أعوام , الاهتمام لا ينصب على الحبكة وحسب , بل والتكنيك الذي تقوم عليه الرواية , في حين أن الروايات العربية منذ ألف ليلة وليلة سردية لا أكثر , على اختلاف الشهرزاد التي تروي ! وبعضها تتجاوز ذلك لتكون سيرة ذاتية ترتدي طاقية الإخفاء , أنا هنا لست متحاملاً ولا أعمم , و كذلك لست ناقداً مخولاً له التحدث عن هذا الأمر المهم , الرواية الآن طاغية على كل ما عداها من الفنون , حتى الشعر بدأ يخفت وهجه أمام الرواية والقصة , إذاً لست أتحدث عن أمرٍ هيّن على الإطلاق , لذلك ما أقوله الآن هو رأي شخصي لا أكثر ولا يعتد به بطبيعة الحال لأنه يصدر عن شخصٍ ليست له خبرة نقدية , ولكن ما أملكه هو الرؤية , ومن خلالها أنا أتحدث الآن , في هذه المحاضرة يتحدث أمبرتو إيكو عن روايته " بندول فوكو " واقتبس مرة أخرى من كلامه : " سألني أحد الصحفيين الفرنسيين ؛ كيف نجحت في وصف هذه الأماكن بهذه البراعة ؟ حينها شعرت بالزهو وأجبت : ربما يرجع ذلك لأنني عادة ما أكتب وفق نوع من ( الخلفية المشهدية ) التي أصممها قبل ذلك . وهذا وحده لا يكفي , لأنه في الحقيقة ماذا يعني أن تنظر إلى حيز مكاني ثم تحوله إلى كلمات ؟! بعد هذا اللقاء قررت الاهتمام بالمشكلة النظرية الخاصة بـ hypotiposis وربما تكونون قد عرفتم أنها الأثر البلاغي الذي تنجح الكلمات من خلاله في خلق مشهد بصري " . كذلك ليكتب فصلاً واحداً من روايته تلك قام بالسير لعدة ليال , حاملاً جهاز تسجيل , ومدوناً ملاحظاته حول ما يستطيع رؤيته وانطباعه عن ذلك , إضافةً لكل ذلك هو يمتلك جهاز كومبيوتر يستطيع عرض كيف يمكن أن تبدو السماء في أي وقت من أية سنة , عند أي خط طول أو عرض ! في حين أن المصداقية تكاد تكون معدومة عند بعض روائينا العرب الذي يبلغ بهم الإعجاز أن يكتبوا بإسهاب عن أماكن لما يزوروها قط ! أعود و أقول أن لدي الثقة الكاملة في قدرة روائينا الفائقة على وصف الأماكن ببلاغة – نجيب محفوظ كمثال – ولكن هل هذا يكفي حقاً لخلق رواية جميلة ؟! وهل كتّابنا قادرون على ذلك , أعلم أنهم يملكون الموهبة العظيمة لفعل ذلك , ولكن الموهبة وحدها لا تكفي , من العسير أن نطالب روائينا أن يتوقفوا عن الكتابة ريثما يصلوا إلى معرفة الأسلوب الأمثل لكتابة رواية , ولكن أعتقد أن عليهم أن يعوا الحد الأدنى من ذلك وأن لا يكتفوا بموهبتهم , حتى لا نعود لنتساءل بحرقة لماذا لم يأخذ نوبل إلا نجيب محفوظ ؟ ولو تمعنّا في ما يكتبه نجيب محفوظ رحمه الله لوجدنا أنه بارع في وصف الأمكنة والصور , لذلك ليس مستغرباً أن يتم تحويل أغلب أعماله إلى أفلام سينمائية , إنه يخلق سينما من الكلمات , سينما بمؤثرات تخيلية وصوتية من الحروف , هو متمكن إلى الحد الذي نقل به حارات مصر القديمة إلى نوبل , أعود مرة أخرى إلى أمبرتو إيكو الذي يخبرنا أن " كثيراً من المؤلفين في سبيل أن يعطوا القارئ انطباعاً بلا محدودية المكان ينظرون إليه كما يقال من وجهة نظر نملة . فأنا أستطيع أن أمشي من هنا إلى هناك في بضع خطوات , لكن نفس المسافة – من وجهة نظر نملة – طريق طويل وممل . استخدمت Eliot هذا التكنيك في " Prufrock " بوصف الشوارع من وجهة نظر الضباب ! " أجزم أنه لا أحد من روائينا العرب خطرت له هذه الفكرة وصف الأشياء من خلال وجهة نظر الأشياء , قبل أيام قرأت مقالاً يتحدث فيه كاتبه عن انتقال الرواية من الغرب إلى الشرق , ولا أدري على ماذا استند كاتب المقال ليخرج لنا بهذا الاستنتاج المهم , أعلم أن الرواية العربية تحظى الآن بالاحترام ولكن ليس للحد الذي نقول فيه أن مركز الرواية انتقل من الغرب إلى الشرق . فلا يزال الطريق طويلاً و وعراً للوصول إلى هذه الغاية ! شكراً لكم وعذراً على الإطالة ..

كاروهات ,

الإثنين, مارس 3rd, 2008

جاءت إليه وهي تسير بخطى ثقيلة , كان هناك شيئاً يحثها على الإسراع في مشيها لكنها لا تستطيع , كان رأسها ثقيلاً وهو السبب في جعلها بطيئة , و كان هو يعلم ما جاءت به , فقد كان يعتقد بأن لديه حواس كثيرة , أكثر من التي يملكها باقي البشر , و أنه لو قدّر له أن يعيش قبل ألفيّ عام لكان الآن نبي , كان مستلقياً على الأريكة المصنوعة من خشب رخيص الذي سرعان ما اختفت الأسفنجة التي عليه , فأصبح يجلس على الخشب , لذلك يشعر بآلام في ظهره طوال الوقت . " وسّع لي " طلبت منه , لم يكونا معتاديّن أن يطلب أحدٌ أن يفسح للآخر , لم يكن هناك داعٍ للطلب . ثم قالت له : " سأتزوج " , كانت تنظر إليه و عيناها جاحظتين مليئتا بالدم , لم ينظر إليها وبقي نظره معلقاً بالسقف , ولكن شعر بأن رأسه أصبح ثقيلاً , فأخبرها عن أمنياته وهو صغير أن يكون لديه كرسياً هزاز . أخبرته أنها لا تملك خياراً وأنها انتظرته طويلاً حتى نضبت , وأن الأحلام لم تعد تأتيها حين تنام . " ضحك والدي حينما طلبت منه أن يشتريه لي , وقال إني مازلت صغيراً على دخول نادي مالكي الكرسي الهزاز " قال لها ذلك و رأسه يزداد ثقلاً عن كل مرة حتى أصبح كصخرة عظيمة لا يستطيع أن يحركه , فغضبت منه لأنه لا يستمع إليها جيداً , ولا يدرك خطورة الأمر الذي تتحدث عنه , فأجابها أنه يشعر بالسأم , وطلب منها أن ترضعه , ففعلت ثم رحلت .. وعاش طوال حياته برأس ثقيل !