
(I)
لا أتذكر شيئاً من أحلام طفولتي , هل كنتُ أريد أن أكون طياراً ؟ كل الأطفال كانوا يريدون أن يكونوا طياريين , هذا حلم مشترك لجميع طلبة الصف الخامس , ما أتذكره هو ذكرياتي وليس أحلامي . أتذكر حب أبي لجدي , وحبهما للخروج بعد العصر كل يوم إلى خارج المدينة , يتأملان كل شيء و يتحدثان بأمور لا أتذكرها , لأني كنتُ صغيراً . أتذكر أخي الصغير وهو يجلس على المرتبة الصغيرة الفاصلة بينهما . كنا أحياناً نخرج لوحدنا أبي وأنا , الذي أتذكره أنه كان يحب أن يستمع للشيخ محمود خليل الحصري . وأنا صغير لا أتذكر إلا صوته في سيارة أبي , لم يكن أبي يحب الاستماع إلى الأغاني , لا إلى محمد عبده و لا إلى طلال مداح , في السيارة لم يكن يوجد إلا كاسيتات القرآن الكريم بصوت الحصري رحمه الله . لكني لم أكن أحب صوته , في الطرق الطويلة يجعلني أنام .
(II)
بعد هذا بسنين أيام دراستي في مصر سكنتُ في مدينة السادس من أكتوبر , قريباً من مسجد الحصري الذي غدا واحداً من أجمل مساجد مصر . كنتُ كلما وقفت على البلكونة وتطلعت إلى مآذنه تذكرت أبي . يوماً ما مرضت , كنت أنام في الصالة وأستمع إلى قناة المجد للقرآن الكريم , في آخر الليل يضعون تسجيلات الشيخ الحصري , أذكر أني كنت متلحفاً واتأمل عمق صوته والأمان الذي فيه , كنت أشعر بالتعب وعدم قدرتي على الحركة , لكن صوت الحصري كان يعطيني قوة لا أدري ما هي . أقول بصدق لم أكن معجباً بصوته قبل تلك اللحظة , كنتُ في الماضي أعتبره صوتاً كبيراً أكبر مني وكما قلت يجعلني أنام في الطرق الطويلة , كان يعجبني صوت سعود الشريم , ولا يزال .
(III)
تذكرت أبي وأنا استمع إلى الحصري في تلك اللحظة , عرفت لِما أبي كان كبيراً في ذوقه , لِما يصل دائماً إلى الأشياء قبل أن أصلها , لِما كانت نصائحه تأتي دقيقة دائماً . أخذت هاتفي وكتبت إليه رسالة أخبره أني استمع الآن إلى الحصري وأذكره , أخبرته أني أتذكر أننا لم نكن نستمع في السيارة إلا للحصري , أخبرته أشياءً كثيرة . كانت هذه المرة الأولى التي أكتب لأبي شيئاً حميمياً كهذا , في آخر الليل . حينما أتذكر هذا الموقف أضحك كثيراً وأقول لو لم يكن أبي يعرفني لأصابته الشكوك أني أعاني من السُكر وأمرُّ بمنحنى عاطفيّ يجعلني أتذكر . لكن ليس من شيء قادر على أن يجعلني أنسى أبي والأشياء التي أحببتها يوماً ما , ليس من شيء يجلعني أنسى أن ذوقه في الأشياء أعمق من ذوقي , وأن أكبر أحلامي أن أكون مثله .





.jpg)

.jpg)


