أردت دائماً أن أخوض تجارب كثيرة وأمارس مِهناً مختلفة . ليس ذلك تأثراً بأستاذ الفيزياء الأردني الذي كان يصف نفسه دائماً " صاحب سبع صنايع والبخت ضايع " . لكن هي طبيعتي الملولة التي لا تثبت على شيءٍ واحد . الشيء الوحيد الذي كنت متأكداً من كوني أريده هو أن أصير دبلوماسياً , وحتى في أيام دراستي العلوم السياسية كنت أفكر بتخصصات أخرى أدرسها لو قُدّر لي ذلك , كان أهمها الهندسة . مهووسٌ أنا بالعمارة , بطريقة تصاميمها الذكية التي تراعي تفاصيل التفاصيل , بكيفية بناءها شاهقة كأنها مُدن معلقة , كنتُ مأخوذاً بهذا المجال وأعتبره أحد أعظم الفنون كالشعر أو الرواية . أخذت أقضي أوقاتاً طويلة في القراءة عن فن العمارة , شاهدت عشرات الوثائقيات , تعرفت على معماريين عظماء كحسن فتحي , سنان آغا , زها حديد , مينورو ياماساكي وغيرهم الكثير . أحببت في هذه المهنة أنها عابرة للحدود ليست محصورة بحيز أو نطاق معين , تجد أن المعماري المصري حسن بيك فتحي يصمم مبانٍ في باريس واليونان وجدة , زها حديد تبني أعمالها في برلين والكويت , مينورو ياماساكي يصمم مطار الظهران ومؤسسة النقد السعودي ويخطط لمبنى التجارة العالمي في نيويورك , حتى سنان آغا يبني تحفته جامع سليمان القانوني في اسطنبول ويصمم لجوامع أخرى في دمشق والقاهرة . كانوا يحصلون على التقدير لأعمالهم في ذات الوقت , لأن عظمة أعمالهم حية ولن تقدر العين على تجاوزها . هذا الشيء الوحيد الذي يمتاز فيه الفن المعماري عن باقي الفنون الأخرى , آرثر رامبو لم يحصل على التقدير إلا بعد وفاته وأصبح من أشهر شعراء فرنسا , فان غوخ لم يصب الشهرة إلا بعد وفاته , كلهم هكذا , من النادر جداً أن يحصل مبدع على التقدير الكبير في كل العالم وهو على قيد الحياة , ربما يحصل عليه بعد أربعين سنة من العمل المجتهد الذي لا ينقطع . لكن أن تكون معمارياً وتصمم عملاً مذهلاً واحداً سيتردد صدى اسمك في كل العالم فوراً . إذاً فهذا نادٍ صغير يضم نخبة الناس , وأقول دائماً لو لم أكن دبلوماسياً لكنت بكل فخر معمارياً .
* شاهدوا هذا الوثائقي الرائع عن حسن فتحي .