Archive for the ‘Citazione’ Category

الأحد, نوفمبر 22nd, 2009

في كتيّب صدر عن دار غاليمار عام 1967، أجاب بورخيس محاوره جورج شاربونيي بالآتي : " كتبتُ أقصوصة فونيس، لأني أمضيت ليالي طويلة من الأرق . ومثل كل الناس أردتُ أن أنام ؛ ولم أستطع . كي ينام المرء، عليه أن ينسى قليلاً الأشياء . يومذاك، لم أقوَ على النسيان . كنتُ أغمض عينيّ ، وأتخيّلني مُغمض العينين في فراشي . لكني كنت أظل أتخيّل الأثاث والمرايا والمنزل بكامله . ولأتخلّص من كل ذلك وضعتُ فونيس التي هي نوع من المجاز للأرق، لصعوبة أو لاستحالة الاستسلام للنسيان . لأن النوم هو هذا الاستسلام للنسيان الكلي . نسيان المرء هويته, نسيان ظروفه . فونيس لم يستطع ذلك . لذا، مات أخيراً من الإرهاق . وقد ساعدتني هذه الأقصوصة على الشفاء, فقد أودعتُ كل أرقي في بطلها . ولا أعني أنني نمتُ جيدًا ما إن أنهيتها، وإنما بدأت أشفى "

من هامش حوار مع إمبرتو إيكو , نشرته صحيفة إيلاف .

9

الثلاثاء, أكتوبر 6th, 2009

جلس مراهق في السادسة عشرة من عمره على مقعد فارغ أمام طاولة الشرب . ثم أخذ يتفوّه بجمل مثيرة تنزل في الحديث كما ينزل خط مغلوط في الرسم فلا يمكن متابعته ولا محوه .
قال لها : " ساقاكِ جميلتان " .
فقالت معترضة : " كما لو أنك تراهما عبر خشب طاولة الشرب ! "
وأوضح الفتى : " ولكني أعرفك . أراقبك في الشارع " .
غير أن تيريزا ابتعدت للاهتمام بزبائن آخرين . طلب منها كأس كونياك فرفضت .
فاعترض المراهق : " ولكني أتممت لتويّ الثامنة عشرة " .
– أرني بطاقتك الشخصية .
فردّ المراهق :
– هذا غير وارد .
– حسناً ! خُذ هذه ليموناضة ! "
ثم , دون أن ينبس بكلمة , نهض عن مقعده وخرج . ثم رجع بعد زهاء نصف ساعة للجلوس أمام طاولة الشرب . أخذ يومئ بحركات كثيرة ورائحة الكحول تفوح من فمه عن بعد ثلاثة أمتار .
– " ليموناضة ! "
قالت :
– " أنت ثمل ! " .
أشار المراهق إلى لوحة معلقة على الحائط خلف تيريزا , كُتب عليها : يُمنع منعاً باتاً تقديم مشروبات كحولية لمن هم دون الثامنة عشرة .
ثم قال وهو يشير إلى تيريزا بحركة موحية من يده : " يُحظر عليك أن تقدمي لي الكحول , ولكنه لم يُكتب في أيّ مكان أنه لا يحق لي أن أسكر " .
– " أين فعلت بنفسك هذا ؟ " سألت تيريزا .
– " في الحانة المواجهة " . ثم أطلق ضحكة طويلة , وطلب من جديد ليموناضة .
– ولماذا لم تبق هناك إذاً ؟
قال المراهق : " لأني أريد أن أنظر إليك . أحبك " .
حين تفوّه بذلك , انقبض وجهه بشكل غريب . لم تكن تفهم : أهو يهزأ بها ؟ أم يمهّد لصداقتها ؟ هل في الأمر ألعوبة ما ؟ أم أنه ببساطة كان سكران ولا يعرف ماذا يقول ؟
وضعت كوب الليموناضة أمامه , ثم ذهبت للإهتمام بزبائن آخرين . يبدو أن كلمة " أحبك " قد أنهكت المراهق , لأنه لم يقل شيئاً بعدها . بل وضع دون ضجة المال على الطاولة وانسحب دون أن تلاحظ تيريزا .
ما إن خرج حتى بادر بالكلام رجل أصلع قصير كان يتناول كأسه الثالثة : " ياسيدة , تعرفين أنه لا يحق لك تقديم الكحول لمن هم دون السن ؟ " .
– ولكني لم أُقدم له كحولاً ! أخذ كوباً من الليموناضة !
– رأيت جيداً ماذا سكبت له في الليموناضة !
– " ماذا تقول ! " هتفت تيريزا .
فأمرها الأصلع : " كأس فودكا أخرى " , ثم أضاف : " منذ فترة طويلة وأنا أراقبك " .
عندئذ تدخّل رجل طويل القامة كان اقترب من طاولة الشرب ورأى المشهد بأكمله :
– حسناً ! اعتبر نفسك محظوظاً لأنه يتسنى لك النظر إلى سيدة جميلة واقفل فمك !
فصرخ الأصلع : " أنت مادخلك في هذا الأمر ! هذا شيء لا يعنيك ! " .
فسأل الرجل العملاق : " وهل تستطيع أن تشرح لي مادخلك أنت في هذا ؟ " .
قدمّت تيريزا كأس الفودكا التي كان الأصلع قد طلبها . فشربها دفعة واحدة , ثم دفع الحساب وخرج .
قالت تيريزا للرجل الطويل القامة : " أشكرك " .
فقال الرجل الطويل : " ليس هناك ما يستوجب الشكر " , ثم خرج بدوره .

كائن لا تُحتمل خفّته

أيها الساحر الساخر من كل شيء !

السبت, يوليو 12th, 2008

الآن وأنت مسجّـَـى على صوتك‮. ‬ونحن من حولك،‮ ‬رجوع الصدى من أقاصيك إليك‮.‬
الآن لا نأخذك إلى أي‮ ‬منفى،‮ ‬ولا تأخذنا إلى أي‮ ‬وطن‮. ‬ففي‮ ‬هذه الأرض من المعاني‮ ‬والجروح ما‮ ‬يجعل الإنسان قديسًا منذ لحظة الولادة،‮ ‬وشهيدًا حيًّا مضرّجًا بشقائق النعمان من الوريد إلى الوريد‮.‬
كان لي‮ ‬موعد معك،‮ ‬هنا في‮ ‬ناصرة البشارة والإشارة،‮ ‬فانتعلتُ‮ ‬قلبي‮ ‬وحملت هواجسي‮ ‬في‮ ‬يدي‮: ‬هل أصل هذه المرَّة إلى جنة الجحيم هذه؟‮! ‬أم سيعلمني‮ ‬السراب ثانية أن للأرض أرضًا أُخرى قريبة منها وبعيدة؟ ولم تكن أنت ذريعة للنداء‮. ‬كنت العناق البعيد‮. ‬أما كان في‮ ‬وسعي‮ ‬أن أجد الإثنين،‮ ‬دليلي‮ ‬وسبيلي؟‮! ‬أم أن المصائر اعتادت على لعبة الحضور والغياب‮! ‬على إيقاظ القلب من سكرته‮: ‬لا تحلم بما لا تستحق‮. ‬فليس هذا اللقاء سوى وداع‮.‬
مَــن‮ ‬يودِّع مَــن،‮ ‬أيها الساحر الساخر من كل شيء؟ ومن وقفتي‮ ‬هذه بالذات؟ فهأنذا أراك تغمز المشهد بنظرتك الشقيّــة،‮ ‬لا لشيء إلا لأنك تعرف نفسك وتعرفنا واحدًا واحدًا منذ أقدم الفاتحين حتى آخر العائدين‮. ‬وتعرف أن الذات،‮ ‬لا الموضوع،‮ ‬هي‮ ‬ما‮ ‬يجعل المرء‮ ‬يركض من المهد إلى اللّحد بحثًا عن ذاته التي‮ ‬لا تجد ذاتها،‮ ‬إلاّ‮ ‬إذا امتلأت بخارجها‮. ‬وكم كابدت في‮ ‬هذه الرحلة‮. ‬كم كابدت كي‮ ‬تجد الأدب هناك في‮ ‬تلك المنطقة المتوتِّرة من السؤال‮. ‬فكنت كما تريد أن تكون وكما لا تريد‮. ‬وحيدًا في‮ ‬زحامك ومزدحمًا في‮ ‬وحدتك‮. ‬ولكن حدود الكون كانت واضحة فيك من‮ ‬غير سوء‮. ‬هنا على هذه الأرض القديمة الصغيرة‮ ‬يجري‮ ‬الحوار بين الواقعي‮ ‬والخرافي،‮ ‬بين الزمني‮ ‬والروحي،‮ ‬بين النسبي‮ ‬والمطلق،‮ ‬بين الزائل والدائم،‮ ‬بين الحق والباطل،‮ ‬بين الحرب والسلام‮. ‬وهنا‮.. ‬هنا البداية وهنا النهاية‮.‬
باقٍ‮ ‬في‮ ‬حيفا،‮ ‬حيًّا وحيًّا‮.‬
باقٍ‮ ‬في‮ ‬حيفا،‮ ‬هو الإسم الذي‮ ‬سمّــيت به إسمك‮. ‬لا لتميِّز بين صعود الجبل وبين هبوط الجبل‮. ‬ولا كي‮ ‬تحدِّد الفارق بين الباقي‮ ‬في‮ ‬منفى هويّته،‮ ‬وبين العائد إلى هويّة منفاه‮. ‬بل لتفعل فعلتك الخاصة بالأسفار،‮ ‬ولتحفر فوق المخطوطات ما لست في‮ ‬حاجة إلى تأكيده،‮ ‬إلاّ‮ ‬لمواجهة زمن طال فيه الشك شرعية الأُم‮. ‬حين صار في‮ ‬وسع القوة الواثقة من امتلاك الحاضر،‮ ‬أن تضع الماضي‮ ‬على مائدة التساؤل،‮ ‬لتملي‮ ‬عليك روايتها‮: ‬حجرًا في‮ ‬مواجهة بشر‮.‬
لم‮ ‬يرتكب شعبك من خطيئة سوى إسم هذه الهوية الذي‮ ‬تحفره في‮ ‬قطعة من رخام وفي‮ ‬الذاكرة الجماعية‮:‬
باقٍ‮ ‬حيث ولد في‮ ‬المكان الذي‮ ‬واصل فيه سليقة العلاقة العضوية المستمرَّة،‮ ‬وبلا قطيعة،‮ ‬بين الأرض وتاريخها ولغتها‮. ‬وتابع فيه الإصغاء المرهف بخشوع ومحبَّة إلى كلام السماء إلى الأرض‮. ‬ليعيش حياته البسيطة قنوعًا بحصته من الماء والهواء والضوء وتبدُّل الفصول والغزوات،‮ ‬لتصبح الأرض التي‮ ‬غابت عنها طبيعتها أرض التعدُّدية والتسامح والسلام‮.‬
لقد شاءت طبيعة التطور التاريخي‮ ‬في‮ ‬تقاطع المصائر الإنسانية أن تجعل هذه الأرض المقدسة بلدًا لشعبين،‮ ‬بعدما تعرض شعبها الفلسطيني‮ ‬إلى المصير التراجيدي‮ ‬المعاصر وبذل تضحيات تفوق طاقة البشر لتثبيت هويته الوطنية،‮ ‬وحقه في‮ ‬الإستقلال‮. ‬وكنت أنت منذ البداية وحتى هذه اللحظة،‮ ‬أحد المنابر المتحرِّكة الأقوى والأعلى،‮ ‬الداعية إلى سلام الشعوب بحق الشعوب‮. ‬السلام القائم على العدل والمساواة ونفي‮ ‬إحتكار الله والأرض،‮ ‬للوصول إلى المصالحة التاريخية الحقيقية بين الشعبين،‮ ‬مع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس‮.‬
والآن وأنت مسجّــى على هذا المفترق،‮ ‬على لون هذا الغسق الداكن مدمى بالأمل وبخيبة الأمل،‮ ‬باليقين وبالشك معًا،‮ ‬فإن أكثر من جيل واحد من الباقين هنا‮ ‬يعبر عن دَينه لك،‮ ‬للطريقة التي‮ ‬حللت بها جدلية التوتُّر الوجودي‮ ‬والثقافي‮ ‬بين الجنسية والهويّة،‮ ‬بطريقة وحيدة هي‮ ‬البقاء والدفاع عن حقِّهم في‮ ‬المساواة‮. ‬وإمداد عناصر الهوية بمكوناتها الثقافية،‮ ‬الوطنية والقومية التي‮ ‬لا وجود لهم بدونها‮.‬
فطوبى لك أيها المعلم الذي‮ ‬جعل الحنين فاكهة،‮ ‬وسيّـَـج الحيرة بزهرة القندول‮.‬
كم أنت‮ ‬يا حبيبي،‮ ‬كم فيك من تناقض هو أحد مرايا تناقضاتنا التي‮ ‬تكسر اللغة من فرط نزوع المأساة إلى ارتداء قناع الملهاة‮. ‬في‮ ‬كل واحد منّــا واحد منك ونحن جميعًا فيك‮. ‬وفي‮ ‬كل لحظة من زماننا أكثر من تاريخ‮ ‬يتبّدل قبل أن‮ ‬يمنحنا فرصة للتكيّـُـف أو فرصة للتذكُّــر‮. ‬تاريخ‮ ‬ينقض علينا كقطار عشوائي،‮ ‬فماذا تفعل في‮ ‬انتحار الرحمة؟ لم تكن السخرية خيارك الأدبي‮ ‬بقدر ما كانت حجتك في‮ ‬وجه هذا العبث،‮ ‬وطريقة في‮ ‬اختيار برج للرصد،‮ ‬ونقطة للوقوف على قدم المساواة مع الخصم ومع القدر معًا‮.‬
إذا كنّــا نلعب،‮ ‬فتلك هي‮ ‬شروط اللعبة،‮ ‬لسانًا بلسان،‮ ‬لا طائرة ضد طائر‮. ‬وفي‮ ‬هذه المنطقة أيضًا‮ ‬يتبطّــن المعنى معنى ثانيًا،‮ ‬ويلجأ الفرد إلى ذاته ساخرًا من عبء رسالتها فيخف الحمل الثقيل من أجل الإنتقال إلى حمل أثقل،‮ ‬في‮ ‬صحراء الإيقاع الذي‮ ‬لا‮ ‬يتوتَّر إلاّ‮ ‬لينسجم بين السياسي‮ ‬والأدبي‮. ‬لا،‮ ‬لن تستطيع العودة إلى الوراء لإجراء التعديل المبتغى على مصيرك‮. ‬تلك كانت حسرتك الأخيرة،‮ ‬أن تتخلى عن السياسة منذ البداية لتكون أديبًا منذ البداية‮. ‬فأنت من أنت إبن شرطك التاريخي‮ ‬وابن ذاتك‮. ‬وليس من شيم هذه البلاد أن ترحم أبناءها ليكونوا عاديين كسائر البشر‮. ‬وليس من شيمها أيضًا أن تأذن للضحية بلوم نفسها‮. ‬وفيك من المساحات والأصوات،‮ ‬فيك من تقاطع الطرق وحوادثها،‮ ‬فيك من البطل والضحيّة والشاهد،‮ ‬فيك من الأنا والجماعة والآخر،‮ ‬ما كان‮ ‬يُــعجِــز الفرد فيك عن أن تكون الراوية،‮ ‬لأنك أنت،‮ ‬أنت الرواية المفتوحة على الجهات كلّها والمفارقات كلّها والأسئلة كلّها ما عدا سؤالاً‮ ‬واحدًا‮: ‬هل إنتصار الإطار هو هزيمة المعنى،‮ ‬وهل هزيمة الأداة هي‮ ‬موت الفكرة؟
والآن وأنت مسجّــى على فكرتك ذات الأقانيم الثلاثة،‮ ‬الحرية والعدل والسلام،‮ ‬فإن شعبك بأسره،‮ ‬شعبك العربي‮ ‬وأشقاءه من آخر الصحراء حتى آخر البحر،‮ ‬وأصدقاءه الأوفياء،‮ ‬أصدقاءك،‮ ‬من قوى السلام في‮ ‬هذه البلاد وفي‮ ‬العالم،‮ ‬يزدادون وفاءً‮ ‬لفكرتك فتلك هي‮ ‬وصية الحُــر للحُــر،‮ ‬وتلك هي‮ ‬هوية وجودنا الإنساني‮ ‬المشترك على أرض المعاني‮ ‬الإنسانية العريقة والتعدُّدية الثقافية والدينية والقومية‮. ‬أرض السلام العطشى إلى السلام‮.‬
فانهض معنا‮ ‬يا أبا سلام لنمضي‮ ‬قليلاً‮ ‬معك وإليك،‮ ‬إلى هناك،‮ ‬إلى حيث تريد أن تنام حارسًا دائمًا لتلفُّــت القلب إلى حيفا‮. ‬واغفر لنا‮ ‬يا معلِّمنا ما صنعت بنا وبنفسك‮. ‬إغفر لنا أننا سنعود بعد قليل إلى أنفسنا ناقصين‮.‬

( كلمة الشاعر " محمود درويش " في حفل تأبين إميل حبيبي – حيفا 3 أيار 1996 )

Ne Me Quitte Pas

الأربعاء, مايو 7th, 2008

حين وقف منتصف المسرح غافل الضوء المسلط عليه وأهداها لسوزانا , انفصالهما والطريقة التي يشد فيها على الحروف حين يعيد لا تتركيني لا تتركيني , يمكننا أن ننسى , يجب أن ننسى , الطريقة التي يضم فيها الضوء أبكت الكثيرين , كيف استغفلنا بحزنٍ مصطنع , جاك بيريل أفلت يد سوزانا من قبل أن يكتب موسيقى رجاءاته الموجعة بكثير , يجب أن ننسى من رحل , يقول , لا يمكننا أن ننسى , كيف يمكن أن تستيقظ بيدٍ واحدة وتنسى , كيف يمكن أن تنسى أنك أصبحت النصف فقط , نصف خزانة , نصف وسادة وحصة طعام واحدة , لا يمكن أن ننسى وأكره حين يشد على الموسيقى ويصرخ لا تتركيني .

Ne Me Quitte Pas

نسـيان

الصحراء ..

الأربعاء, مارس 26th, 2008

يقيناً , إن الحياة هي إلى حد ما نقيض التعبير . وإذا ما صدق كبار الرسامين التوسكانيين , فإنها الشهادة ثلاث مرات في الصمت , و السعير , والسكون . لابد من زمن طويل لندرك أننا نصادف شخصيات  لوحاتهم كل يوم في شوارع فلورنسا أو بيزا , لكننا بتنا أيضاً لا نعرف كيف نميز الوجوه الحقيقية لمن يحيط بنا , لقد بتنا لا ننظر إلى معاصرينا , ولا يستوقفنا فيهم إلا ما يرشد خطانا , وينظم مسلكنا . إننا نفضل على الوجه ما فيه من شاعرية مبتذلة . أما جيوتو وبييرو ديلا فرانشسكا , فقد كانا يعرفان حق المعرفة أن حساسية إنسان ما ليست شيئاً , وفي الحقيقة إن لجميع الناس قدراً من العاطفة , لكن العواطف الكبيرة والبسيطة والخالدة التي يدور حولها حب الحياة , والبغضاء , والحب , والدموع , والأفراح , تنمو في أعماق الإنسان وتنحت وجه مصيره – كما في لوحة دفن المسيح لجيوتينو وآلام مريم الصارفة بأسنانها – , صحيح أني أرى في كنائس توسكانيا الفسيحة جماً غفيراً من ملائكة وجوههم منقولة عن بعضها بعضاً إلى مالا نهاية , لكني أتعرف في كل وجه من هذه الوجوه الصامتة الوالهة عزلة ووحدة . قد تكون المسألة فعلاً مسألة تصوير بارع , أو مشهد أخاذ , أو فروق دقيقة , أو إثارة انفعال , وقد تكون مسألة شعر , لكن إنما المهم هو الحقيقة , وإني لأسمي حقيقةً كل ما يستمر , ومن هذا المنظور فقد نحتاج إلى قدر من رهافة الفكر لنستنتج أن الرسامين وحدهم يستطيعون إرواء ظمئنا إلى هذه الحقيقة , ذلك أن لهم امتيازاً : فقد جعلوا من أنفسهم روائيي الجسم , ثم إنهم يشتغلون بتلك المادة العظيمة والزهيدة التي تدعى الحاضر , والحاضر يرتسم دوماً في بادرة , إنهم لا يرسمون ابتسامة أو حياءً عابراً , حسرة أو انتظاراً , بل وجهاً بكل بروز عظامه وحرارة دمه , لقد طردوا إلى الأبد هذه الوجوه الجامدة في خطوط أزلية لعنة الروح على حساب الأمل . ذلك أن الجسم يجهل الأمل , إنه لا يعرف إلا نبضات دمه , إن الأبدية الخاصة به قائمة على اللامبالاة , كما في " جلد المسيح " لبييرو ديلا فرانشسكا حيث يشف كل من المسيح المعذب والجلاد الغليظ الجثة بوضعيتهما داخل باحة مغسولة حديثاً عن التجرد ذاته , ذلك أن العذاب ليس له تتمة , وأمثولته تتوقف عند إطار اللوحة , فما الداعي لأن ينفعل من لا ينتظر غداً ؟ إن عدم التأثر هذا وعظمة الإنسان الذي بلا أمل هذه , إن الحاضر الأبدي , هو ما سماه اللاهوتيون المتبحرون بالجحيم , والجحيم كما لا يجهل ذلك أحد , هو أيضاً الجسد الذي يتوجع , إنما عند هذا الجسد يتوقف التوسكانيون  لا عند مصيره . ليست هناك رسوم تنبؤية , وليست المتاحف مكاناً للبحث عن أسباب للأمل . حقاً إن خلود النفس يشغل – حتى قبل أن يستهلكوا نسغها – تفكير الكثير من المفكرين ذوي الإرادة الطيبة , لكن ذلك لأنهم يرفضون الحقيقة الوحيدة المعطاة لهم والتي هي الجسد , ذلك أن الجسد لا يطرح عليهم مشكلات أو إنهم على الأقل يعرفون الحل الوحيد الذي يقترحه : إنه حقيقة يجب أن تفنى . ومن هنا كانت له مرارة ونبل الذين لا يجرؤون على النظر إليهما وجهاً لوجه , إن المفكرين ذوي الإرادة الطيبة يؤثرون عليه الشعر , لأنه من مشاغل الروح , وقد يكون مفهوماً أنني أتلاعب بالألفاظ , لكم من المفهوم أيضاً أنني أريد في الحقيقة أن أكرس شعراً أكثر سمواً : الشعلة السوداء التي رفعها الرسامون الإيطاليون من تشيمابوي إلى فرانشسكا بين المشاهد التوسكانية الطبيعية وكأنها احتجاج صاح للإنسان الملقى به على أرض تحدثه عظمتها وضياؤها بلا انقطاع عن إله لا وجود له . ولفرط اللامبالاة واللاحساسية قد يتوصل وجه ما إلى بلوغ العظمة الجمادية لمشهد طبيعي ما , وكما يتوصل بعض فلاحي إسبانيا إلى أن يشبهوا أشجار زيتون أراضيهم , كذلك تتمكن وجوه جيوتو وقد تعرت من الظلال الباهتة التي تتجلى فيها الروح , من الاندماج بتوسكانيا نفسها من خلال الأمثولة الوحيدة التي تفيض بها : ممارسة الهوى على حساب الانفعال , مزيج من النسك والتمتع , تجاوب مشترك بين الأرض والإنسان , يتحدد الإنسان به كالأرض , في منتصف الطريق بين البؤس والحب . ليس من ثمة حقائق كثيرة يركن إليها الإنسان , ولقد عرفت بداهة هذه الحقيقة مساء يوم أخذ فيه الغسق يغرق الكروم وأشجار الزيتون في ريف فلورنسا بكآبة صامتة جليلة , لكن الكآبة في هذا البلد ليست إلا شرحاً للجمال , وفي القطار الذي كان ينسل عبر المساء كنت أشعر بشيء ما تنحل عقدته فيّ , أأستطيع أن أشك اليوم أن ذلك يسمى إلى جانب وجه الكآبة , السعادة ؟ أجل , إن الأمثولة التي يصورها هؤلاء الرسامون , تقدمها إيطاليا أيضاً من خلال مناظرها الطبيعية , لكن من السهل أن تفوتنا السعادة بإعتبار أنها على الدوام غير مستحقة , كذلك شأن إيطاليا , ففتنتها وإن كانت مفاجئة , ليس فورية دوماً , إنها تدعو أكثر من أي بلد آخر إلى تعميق التجربة التي يبدو عليها وكأنها تسلمها من المرة الأولى كاملة , ذلك أنها لا تفيض بالشعر إلا لتخفي حقيقتها بمهارة أكبر , إن تعاويذها الأولى هي طقوس نسيان : أشجار الدفلى في موناكو , جنوى المليئة بالزهور وروائح السمك , والأمسيات الزرق على الشاطئ الليجوري , وأخيراً بيزا ومعها إيطاليا التي أضاعت سحر الريفييرا السوقي قليلاً , لكنها تبقى سهلة المنال , فلمَ لا نرتضي لهنيهة من الزمن بفتنتها الحسية ؟ أمّا عني أنا الذي لا يقسرني شيء حين أكون هنا ( والمحروم من أفراح المسافر الملتاع لأن تذكرة منخفضة السعر تقسرني على البقاء مدة من الزمن في المدينة " التي أختار " ) , فإن صبري على الحب وعلى الفهم يبدو لي بلا حدود هذا المساء الأول الذي دخلت فيه بيزا متعباً جائعاً , فاستقبلتني على رصيف المحطة عشرة من مكبرات الصوت تزعق وتصب موجة من الأغاني العاطفية على جمهرة من الناس معظمهم من الشبان , إنني أعرف من الآن ما ينتظرني , فبعد هذا التوثب بالحياة , ستأتي لحظة فريدة حين تغلق المقاهي أبوابها ويستتب الصمت من جديد فجأة , وأحث الخطى من شوارع قصيرة ومعتمة نحو قلب المدينة , نهر الأرنو الأسود الذهبي , الأنصاب الصفر والخضر , المدينة المقفرة , كيف أصف هذه الحيلة المفاجئة والبارعة اتي تنقلب بها بيزا الساعة العاشرة مساء إلى ديكور غريب من الصمت , والماء , والحجارة ؟ " كان ذلك في ليلة مماثلة , يا جيسكا ! " , هاهي الآلهة تتجلى على هذا المسرح الفريد في نوعه , بصوت عشاق شكسبير .. علينا أن نعرف كيف نرضى بالحلم حين يرضى الحلم بنا , إنني أشعر من الآن في أعماق هذا الليل الإيطالي بالألحان الأولى لهذا النشيد الباطني الذي يأتي الناس إلى هنا بحثاً عنه . غداً , غداً فقط , سيتآلف الريح مع الصباح , أما هذا المساء فها أنا ذا إله بين الآلهة , وأمام جيسكا التي تهرب بـ " خطى يحملها الحب " , أضم صوتي إلى صوت لورانزو , لكن جيسكا ليست إلا ذريعة , واندفاعة الحب هذه تتجاوزها . أجل أعتقد ذلك , فـ لورانزو لا يحبها بقدر ما يعترف لها بالجميل لسماحها له بالحب , لكن لماذا أفكر هذا المساء بعاشقي البندقية وأنسى فيرونا ؟ ذلك أن لا شيء هنا أيضاً يدعو إلى التعلق بعشاق تعساء , فلا شيء باطل كأن يموت المرء من أجل حب , إنما الحياة أجدر به . ولورانزو حياً خير من روميو دفيناً تحت الثرى رغماً عن شجرة الورد فوق ضريحه , فكيف إذاً لا أرقص في هذه الأعياد للحب الحي , وأنام بعد الظهر على العشب الطفل في بيازا ديل ديومو , بين الأنصاب التي يتوفر الوقت دوماً لزيارتها , وأشرب من عيون المدينة حين يكون الماء ساخناً بعض الشيء لكن سلسبيلاً , وأرى من جديد وجه تلك المرأة التي كانت تضحك , بأنفها الطويل وفمها المزهو , يجب أن نفهم فقط أن الطقس يهيئ لإشراقاتٍ أسمى , إنها المواكب المتألقة التي تقود مريدي ديونيزيوس إلى معبد ايلوزيس , إنما في الفرح يحضّر الإنسان دروسه , وحين يبلغ الجسد أسمى درجة من النشوة يضحك واعياً ويكرس اتحاده بسر مقدس رمزه الدم الأسود , وهاهو نسيان الذات الذي أنهله من حميا إيطاليا الأولى هذه , يهيئني لهذا الدرس الذي يحررنا من الأمل ويخطفنا من ماضينا , يا لحقيقة اللحظة والجسم المزدوجة : فكيف لا نتشبث بمشهد الجمال تشبثنا بالسعادة الوحيدة المنتظرة , التي ستسحرنا , لكن التي ستفنينا في الوقت نفسه !

ألبير كامو

الإثنين, يناير 28th, 2008

من المؤكد أن لفظ الضيق أضعف من أن يعبر عن الأشجان المضنية التي كنت أقع فريسة لها في كل حين , إن هذه الأشجان تستولي علينا فجأة و نحن في قمة سعادتنا , فقبل لحظة يضحك لك كل شيء , و تضحك أنت لكل شيء , و فجأة إذا بغمامة سوداء داكنة تتصاعد من أعماق النفس و تقف حائلاً بين المتعة و الحياة , و إذا بها تكون ستاراً أغبر يفصلنا عن بقية العالم , وإذا بحرارة هذا العالم و حبه و ألمه و انسجامه لا تصلنا إلا في صورة انعكاس مجرد , فترى و لا تتأثر و ربما أودى بنا ما نبذله من جهد يائس لإختراق هذا الستار الفاصل إلى ارتكاب أية جريمة و قد يصل بنا الأمر إلى القتل أو الإنتحار و ربما إلى الجنون ..

* أندريه جيد
ايزابيل

ثورة ,

الإثنين, ديسمبر 17th, 2007

وَضَعوني في إناءْ
ثم قالوا لي : تأقلم
و أنا لستُ بماء
أنا من طين السماء
وإذا ضاق إنائي بنموِّي ..
يتحطم !

* أحمد مطر

Hush !

الأربعاء, نوفمبر 28th, 2007

يا سيداتي معذرة ..
أنا لا أجيد القول ، قد أُنْسيتُ في المنفى الكلام !
وعرفتُ سرَّ الصمت ..
كم ماتت على شفتيَّ في المنفى الحروف ..
الصمت ليس هنيهةً قبل الكلام ،
الصمت ليس هنيهة بين الكلام ،
الصمت ليس هنيهة بعد الكلام ،
الصمت حرف لا يخط ُّ ولا يقال
الصمت يعنى الصمت ..
هل يعني الجحيم سوى الجحيم ؟!

* ( لزوم ما يلزم )

صديقي الله !

الأربعاء, نوفمبر 14th, 2007

 أنا صغير
ولسادس مرة أطفئ الشموع
ما أحلى الحياة عند اطفاءة شموع سادسة ..
ما أعرف ؟
لا أعرف شيئاً !
لا أعرف إلا أنّ لي بيتاً بجدران ..
سريراً وصورتين ,
خبزاً وماء لا غير !
وأصبحت دنياي بيتاً بجدران
سريراً وصورتين
خبزاً وماء لا غير !

بكوخنا يا ابني

– صديقي الله , كتابات سجلّها زياد الرحباني بين 1967 – 1968
– بكوخنا يا ابني , كلمات ميشال طراد , غنتها السيدة فيروز لأبنها زياد