.jpg)
" في خريف سنة 1974م (1394هـ) قرّر الملك فيصل, رحمه الله, أن يزور المنطقة الشرقية, وقرر أن يأتي بالقطار. أُبلغنا بالخبر قبل الرحلة بأقل من اسبوعين, و وقع الخبر علينا وقع الصاعقة. كان الملك سعود, رحمه الله, يحب استخدام القطار, إلا أن الملك فيصل لم يسبق له خلال فترة حكمه أن استعمل القطار. كانت هناك عربة ملكية إلا أنها بعد سنين من عدم الاستعمال لم تعد صالحة. أثبت الزملاء العاملون في الورشة أنهم على مستوى التحدي. خلال تلك الفترة الوجيزة تمكنوا من تجهيز عربة ملكية جديدة تحتوي على صالة وغرفة نوم (لم يستعملها الملك!) وغرفة طعام. في الموعد المحدد كان كل شيء جاهزاً, وكنت في محطة الرياض استقبل الملك فيصل و أسافر في معيته.
كنتُ قد رأيت الملك فيصل, أول ما رأيته, خلال عملي في اليمن. بعد ذلك, خلال عملي في الجامعة, كنتُ أذهب للسلام عليه وتناول العشاء على مائدته مرة كل ثلاثة شهور أو أربعة. كان الجلوس على مائدته متعة كبرى. كانت الطاولة صغيرة وكان بوسع الموجودين جميعاً المشاركة في الحوار. كان الملك يتحدث في عدد من المواضيع أقربها إلى قلبه الشئون الخارجية. عبر حياته كلها كان الملك فيصل قليل الكلام إلا أنه في سنواته الأخيرة أصبح يميل إلى التأمل والسكوت وكان نادراً ما يتحدث. أتاحت لي سفرة القطار أن أشهد عن كثب, الإنضباط الصارم الذي كان مفتاح شخصيته.
جلس على المقعد بقرب النافذة ولم يتحرك طيلة الرحلة التي استغرقت قرابة سبع ساعات. خلال هذه الساعات لم ينطق إلا بجملتين أو ثلاث. ما أدهشني هو أنه استطاع البقاء هذه الفترة الطويلة دون أن يتململ, أو يغّير جلسته, أو يطلب شيئاً, أو يقول شيئاً. طلب مني الصديق الأستاذ محمد النويصر, رئيس المكتب الخاص وقتها, أن أذهب إلى الملك واشرح له معالم الطريق. لم يكن الملك فيصل يحب المتطفلين, ورأيت أن من التطفّل أن أحدثه عن مواقع يعرف عنها أضعاف ما أعرف أنا. رأيتُ على مائدته, أكثر من مرة, ما يحدث لأولئك الذين كانوا يخوضون في مواضيع لا يكادون يعرفون شيئاً عنها. كانت تعليقات الملك النفّاذة تتركهم صامتين ولسان حالهم يُردّد "رُبَّ كلمةٍ قالت لصاحبها: دعنيّ!". أثناء زيارة الملك كُلفت بإلقاء كلمة الأهالي الترحيبية. كانت كلمة من طراز فريد: لم يكن فيها أي إطراء شخصي. أخبرني الأمير سلطان فيما بعد, أنه لم ير الملك يصفق إلا تلك الليلة".
حياة في الإدارة