أرشيف شهر أكتوبر 2013

26 أكتوبر 2013
خرجنا من الكنيسة في تلك الصبيحة. هل خرجنا أم انبسطت الكنيسة على ساحتها؟ أليست هي مدعوّة أن تكون المدى؟ خرجنا لنلتقي نحن البشر الذين كنا في الداخل. هل انقطعنا عن الداخل أم تغيرت فقط الأشكال الهندسية؟ خرجنا حاملين ما سمعناه. أخرجنا الكلمات من الكتب لتصير فينا ألحانًا ومعاني ونصيرها، ليلتحم الحرف بالكلمة والقلم بما كان في البدء، ليعود كل شيء إلى البدء.
عملية حب نفّذناها بكلمات سمعناها ثم قلناها. عندما قال صاحب الإنجيل الرابع: "في البدء كان الكلمة" إذا قرأناها عربيًا – وهذا حق لنا – يريد أنّ في البدء كان الجرح. القلب يجرحه الله ليلد منه كلمات وبلا جرح تخلو من المعنى. كل شيء جاء من ذاك الذي طعن جنبه بحربة «وخرج منه دم وماء». والذي عاين شهد ونحن بدورنا بالحب نعاين ونشهد والحب يتدفق من أفواهنا كلمات تبقى إلى الأبد.
عندما رأيت الأحد الماضي المؤمنين في ساحة الكنيسة يتحدثون تساءلت هل انتهت المسرحية التي لعبتها الملائكة في البيعة؟ ما الفارق بين طعام الملائكة وما ذاقه العاشقون ربهم في ذبيحة الحب التي ذبحت لهم دما وقيامة؟ هل تجاوزت رؤى القديسين أم رؤى القديسين وشعوري بهم واحد؟ جرحي أنّ هذه الجماهير المتجمعة صبيحة الآحاد ما دخلت في سرّ الحب الإلهي الا ذلك الدخول الكلامي الذي بقي على الألسنة وكأننا ما كسرنا باب القبر ليخرج منه المخلص. هل إذا خرج المؤمنون الى العالم يحملون اليه المسيح الذي اتخذوه في المناولة الإلهية أم مات فيهم فور المناولة؟ أنا أريد أن أعتقد أنّ شيئًا من السيد المبارك يبقى في كل من تناوله صباح الأحد ليصبح به إنسانًا جديدًا حيًّا بالحق.
ثم رأيت أن الكنيسة في ساحتها الخارجية ليست الا ذاتها في ساحتها الداخلية لأن الناطق بنا داخل الجدران هو إياه الناطق بنا خارج الجدران. رأيت أننا صباح الأحد حياة دفوق، بشر نازلون من السماء. فلكون المسيح صعد إليها من بعد قيامته ننزل نحن منها لكوننا نجيء منه.
نجيء هكذا بعد أن بتنا قياميين بحيث أننا نكون حملنا نوره الينا ورأينا به. القيامة فينا تعني أننا غلبنا الموت. انبعاثنا بقوة الروح القدس ما كان فينا وعدا فقط. هو جرعات البعث الأخير، أذواق مقسّطة لذوقنا النهائي لله. القيامة مبثوثة إلى كل يوم فينا إن بقينا في حال التسليم لأن القيامة حال بعد أن كانت في المسيح حدثا.
أجل المؤمن بيسوع يموت قسطًا بعد قسط في هذا السر أنه يخطئ ويفنى ثم يعود بحياة القيامة التي تجددت فيه. الموت يعود إلينا لكنه لا يفنينا لأن قيامة المسيح حدث نهائي. إنها حدث نهائي فينا والموت إذًا طارئ. عندما نرتل في الفصح: المسيح قام من بين الأموات لا نريد قيامة يومًا واحدًا بل قيامة أبدية. تخترقها ميتاتنا ولا تلغيها لأننا نتجدد بوعده لنا بالروح القدس وبانبعاثنا من خطيئة حتى يزول الموت حسب وعد الروح.
المطران جورج خضر – النهار

26 أكتوبر 2013

"عندما تغادر البوسطة ساحة القرية،
يرفرف خلفها طير، أو فراشة، كما لو كانت
سفينة مهاجرة يودِّعها النوْرَس لحظة الإبحار"
أورتيغا

 

المسألة، دائماً، أن المتفردين لا يرحلون كأفراد. أحياناً يرحلون كجماعة، وأحياناً كظاهرة، وأحياناً كمرحلة وقَّعوا على بدايتها وصار موتهم خاتمتها. وديع الصافي مرحلة بدأت منتصف القرن الماضي مع جمالات القرن الماضي، وانتهت مع عذابات هذا القرن. لن يغنّي أحد لبنان بعد اليوم "كقطعة سما"، لأنه أصبح قطعة من هباء الشرق، ولن يكتب الشعراء من بعده أغنية تبدأ بـ"طلّ الصباح وزقزق العصفور"، لأن العصافير لم تعد تأمَن المرور حتى في طريق الهجرة. لن يعاتب عاشق حبيبته بثلاثة أحرف حزينة، مهزومة، مثل عرائش الخريف: ولو!…
كتب له هذه الأغنية أسعد السبعلي، الذي تحدّث إلى جيزيل خوري عن شبابه في بيروت، جالساً حول موقد فقير في الجبل. قال لها إنه أحب زوجته حباً كثيراً. خطبَها وتزوَّجها، وحملها معه إلى البيت الزوجي، هنا، في الجبل، حول الموقد. كيف؟ ركبا معاً البوسطة من بيروت. مبروك يا أسعد.
لم يكن السبعلي يُدرك أنه يُبكي السامعين في حكاية تشبه أفراح الرسوم المتحركة. لكنَّنا كنّا نتأمّل في تذكاراته وفي الموقد الشحيح، ونتذكّر تلك الكوكبة التي نزلت من الجبال، بفقر وقِلّة وحلم كبير، لتصوغ صورة لبنان الجديد. لبنان المُغنّى. نزل الصافي من تومات (مرتفعات) نيحا، والسبعلي من سبعل، والرحابنة من مراعي الشوير، ولا أدري من أين نزل أسعد سابا، ومن الغباطية في جوَارنا نزل مارون كرم، ومن مرارات الفقر ولؤمه، نزل بحدّته ومرارته توفيق بركات، ومن وادي شحرور أطلَّت شحرورة الوادي، ومن مزيارة ركب يونس الابن الغيم والضباب، ومن مشغرة جاء لورد الفولكلور زكي ناصيف.
القاسم المشترك بينهم لم يكن وحده الصوت، ولا نوع الموسيقى، ولا جزالة الشعر. كان، أنهم أتوا من جبل مأخوذ بطمأنينته إلى مدينة مشغولة بقلقها، خائفة على غدها. كانوا مرتضين بكفاية اسمها لبنان، فوجدوا مدناً لا ترتضيه. رأوا الساحل، بعكس الجبل، متواطئاً مع الخارج، خجولاً بالداخل، الذي أدار له ظهره. غنّوا للجبل من أجل أن تفرح الولاية وتفرد لهم مكاناً وقبولاً.
على كتفَيه حمل وديع الصافي الجبل، تساعده حنجرة من صوّان ونشوة ووديان. لم تُذبه المدينة، وأيضاً لم تشذِّب الريفيّ الذي فيه، ولم تخفّف حَذر القرى، وخوفها من الديب، وغدر المواسم. الحذر منعه من أن يسلِّم ثروته الالماسية إلى خبير يعدّد آفاقها. الرحابنة لم يتوقفوا عن توسُّل الصقل وسبر الآفاق. صغاراً لجأوا إلى مدرسة الأب بولس الأشقر، معلِّم الموسيقى الوحيد في متناولهم، وكباراً اعتمدوا خُبُرات صبري الشريف، القادم من "الشرق الأدنى". وقد ظلّ "الموزِّع" لهم الموسيقى طوال سِفر الأغنية، في عطائهم المشترك.
وديع كان معتدّاً بصوته، يعتقد أنه فوق اللحن والشعر. لذلك أخفق في العمل الجماعي. وفات، كما فات الفن والموسيقى، استمرار ظهوراته مع فيروز وصباح، وبقي أسير عُوده وحده، بينما تنقَّل الرحابنة في الألوان، من تانغو "البالوما" وميلانكوليا "عتاب" إلى هدير "أجراس العودة"، ومن فخر الدين إلى بترا، المملكة المحفورة في صخر.
على أن وديع صمَد بلونه ووحدانيّته. نقل لبنان وجبله إلى مسارح تونس والكويت ومصر. حمله إلى اللبنانيين الذائبين حنيناً، في البرازيل وأميركا الشمالية، وأوروبا، إلى وفر الصبا.
كان له طقس في الغناء: مهما غنّى خلال السهرة لنفسه أو لسواه، لا بدّ أن يبدأ بأغنية عن لبنان، ويختم بأغنية للبنان. كان يعتبر لبنان مسؤولية رعوية، مثل أولاده، الذين جعلهم فرقته الخاصة. لا غرباء في البيت. حتى عندما أراد شريكة في الغناء، اختار زوجة ابنه. هكذا حرم نفسه وحرم الفن والإبداع، استمرار تلك الشركة العابرة مع فيروز أو صباح، أو نجاح سلام.
يا أستاذنا الحبيب، قلت له مرة، تخيَّل هذا المشهد: أنت وفيروز وصباح على مسرح واحد، تغنّون، أي شيء من دفاتركم. تصدحون. تدندنون. أنت على عُودك. صباح على زُلُفِها. فيروز على قمرها. تصوّر… لا تحرموا العالم العربي هذا اللقاء.
لم يخرج القروي من وديع. قطع كل هذا التمنّي بغضبة نيحاوية: "روح يا سَندي احكي فيروز وبعدين رجاع". لم أرُح طبعاً إلى فيروز. أنا كنت أتحدث إليه كحالم يذهب إلى سماعه في باريس وفي لندن وفي الحازمية، وليس كراعي حفلات.
إنها روح الفنّان. أو روح الإنسان. كان وديع يرتِّل إلى الله طوال النهار، شاكراً نِعَمه. يُقيم النذور في الكنائس، ويتطلَّع إلى السماء ويبلِّغها همساً امتنانه. لكنه كان دائم العتب على الأرض وأهلها وديارها. وعلى رغم المكان الذي بلغه، ظلّ يشعر بالخوف. لم تخرج القرية منه. اثنان لا يؤتمنان: الفقر والديب. وفي طريقه الطويل كم رأى من حوله الفنّانين يسقطون في الفقر والنسيان والإهمال. نجوم لامعة تبهت وتسقط. النزلة الأخيرة عن المسرح قَدَم أولى في الموت المهني، وأحياناً حتى في موات الحياة وضنى الأيام. كم رآهم من حوله مَرضى لا يملكون العلاج، ومعوَزين لا يملكون حتى الستر، وكم سمع عنهم في مصر لم يعد لهم رفاق سوى القطط.
كانوا فرقة سلاح المواهب وفرسان الجبل. فيما كان الكونسرفاتوار يعلِّم الموسيقى للقادرين، كان عاصي الرحباني يتسقَّط علم الألحان من النوافذ. فيما كان أحمد رامي يعرِّب الخيّام لأم كلثوم، كان أسعد السبعلي يكتب "ولَو" لوديع الصافي. فيما كان الزجل المصري يرقرق العيون، كان الزجل اللبناني يهدهد الجفون. فرقة الروَّاد الذين يأتون مرة واحدة ليفاجئوا العصر. ينزلون من نيحا ومن سبعل ومن طريق النحل وليس لهم في بيروت إلاَّغرفة شقيّة بلا أثاث، خلف سوق النجارين. خلف سوق الحدادين. خلف سوق العطّارات! كان القرويّون المندهشون يسمّون كل شارع سوقاً. كانوا الجبل وكانت بيروت مجموعة قرى ساحلية متلاصقة. آباؤهم مرّوا بها فقط لكي يركبوا ميناءها على عجل. هم أداروا ظهورهم للميناء. "لن يبنوا أنّى نشأ لبنانا" كما صاح سعيد عقل، بل سوف يبنون لبناناً صغيراً هنا، في العاصمة المولودة حديثاً، وسوف يحاولون إغراء بقية الجبليين بالبقاء، أمّا أهل المدينة، ورجال "مؤتمر الساحل"، فسوف يحاولون إغراءهم بالقبول بهذه الدولة الجديدة، دولة يُغنّى لها، ووطن يٌشهِرُ حبّه بلا خجل، يتفرّد أهله بالأشياء الجميلة.
يقول الحَبر كلود فرولو في "أحدب نوتردام": الكتاب سوف يقتل العمارة! قتل الكتاب اللبناني غول الأحجام. ارتضى العرب بشارة الخوري خليفة لأحمد شوقي. حوَّل الرحابنة قلعة بعلبك الصامتة كدهرها، قلعة تغوي القمر بالاقتراب ليسمع جيّداً ماذا تغنّيه. ذهب وديع إلى نهر الكلب، ينافسهم وينكي إهمالهم له، فغرق في شختورة المنافسة. مسح بلَل الغرق وقام.
شكّلوا، مجموعة أو أفراداً، مصرفاً هائلاً لم يُكتب اسمه على أي مبنى: مصرف تسليف الفرح. مصنع تصدير الفَرَح. شركة توصيل العشّاق حتى بالبوسطة. الفرقة المجانية لموسيقى وأغاني الأعراس. في الجبل وفي المدينة، في السهول وفي السهوب، كانوا يغنّون فتطرَب الأرض وتردّد الوديان. مخمَّس مردود.
صار العالم العربي يحب لبنان ويغبطه. بلد لا نيلَ فيه ولا كرنك، لكن الأمَّة تصغي إليه كما تصغي إلى أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم. بلد عاميَّةٌ صعبة وضيِّقة وألفاظها خشنة و"دبشة"، ومع ذلك يضعه مغنّوه على البرنامج الإذاعي في الجزائر أو تونس أو جيبوتي.
لم يعد هناك اليوم شيء يُدعى الجبل إلاّ بالمعنى السياسي. بالمعنى الشعري والفنّي، صار جزءاً من المدينة. انطوى مسرحه وانطوت تقاليده وتغيَّر معناه. استراحت القافلة. لم يعد "ناي" جوزف أيوب يتفرّد "صولو" في الأغاني كلما أراد المغني شدّنا إلى عالم الرعيان وصفاء الأودية. مرحلة ومضت… جبل وهوى.
النهار