أحلام واقعية ,

" أعتقد أنه ليس على القاص أو الشاعر مطلقاً أن يقدم أية تفسيرات لعمله , فالنص بمثابة آلة تخيلية لإثارة عمليات التفسير . وعندما يكون هناك تساؤل بخصوص نص ما , فمن غير المناسب التوجه به إلى المؤلف "
النص المقتبس السابق هو من إحدى المحاضرات التي ألقاها أمبرتو إيكو على طلبة الدراسات العليا بالأكاديمية الإيطالية في الولايات المتحدة الأمريكية بعنوان ( المؤلف ومفسروه ) , ما تحدث عنه في هذه المحاضرة ذو أهمية بالغة لمن كانت له اهتمامات في هذين المجالين أعلاه خصوصاً القصة والرواية , ما أودّ التحدث عنه الآن , و ما لفت انتباهي كثيراً هو ببساطة أن الرواية عند الكتّاب الغربيين ليست بالسهولة التي نجدها عند كتّابنا العرب مع احترامي الشديد لهم ولما يقومون به من عمل جميل , الرواية هناك مُتعبة تستهلك كثيراً من أوقاتهم وفكرهم و ربما تدوم كتابة رواية بـ 200 صفحة عشرة أعوام , الاهتمام لا ينصب على الحبكة وحسب , بل والتكنيك الذي تقوم عليه الرواية , في حين أن الروايات العربية منذ ألف ليلة وليلة سردية لا أكثر , على اختلاف الشهرزاد التي تروي ! وبعضها تتجاوز ذلك لتكون سيرة ذاتية ترتدي طاقية الإخفاء , أنا هنا لست متحاملاً ولا أعمم , و كذلك لست ناقداً مخولاً له التحدث عن هذا الأمر المهم , الرواية الآن طاغية على كل ما عداها من الفنون , حتى الشعر بدأ يخفت وهجه أمام الرواية والقصة , إذاً لست أتحدث عن أمرٍ هيّن على الإطلاق , لذلك ما أقوله الآن هو رأي شخصي لا أكثر ولا يعتد به بطبيعة الحال لأنه يصدر عن شخصٍ ليست له خبرة نقدية , ولكن ما أملكه هو الرؤية , ومن خلالها أنا أتحدث الآن , في هذه المحاضرة يتحدث أمبرتو إيكو عن روايته " بندول فوكو " واقتبس مرة أخرى من كلامه : " سألني أحد الصحفيين الفرنسيين ؛ كيف نجحت في وصف هذه الأماكن بهذه البراعة ؟ حينها شعرت بالزهو وأجبت : ربما يرجع ذلك لأنني عادة ما أكتب وفق نوع من ( الخلفية المشهدية ) التي أصممها قبل ذلك . وهذا وحده لا يكفي , لأنه في الحقيقة ماذا يعني أن تنظر إلى حيز مكاني ثم تحوله إلى كلمات ؟! بعد هذا اللقاء قررت الاهتمام بالمشكلة النظرية الخاصة بـ hypotiposis وربما تكونون قد عرفتم أنها الأثر البلاغي الذي تنجح الكلمات من خلاله في خلق مشهد بصري " . كذلك ليكتب فصلاً واحداً من روايته تلك قام بالسير لعدة ليال , حاملاً جهاز تسجيل , ومدوناً ملاحظاته حول ما يستطيع رؤيته وانطباعه عن ذلك , إضافةً لكل ذلك هو يمتلك جهاز كومبيوتر يستطيع عرض كيف يمكن أن تبدو السماء في أي وقت من أية سنة , عند أي خط طول أو عرض ! في حين أن المصداقية تكاد تكون معدومة عند بعض روائينا العرب الذي يبلغ بهم الإعجاز أن يكتبوا بإسهاب عن أماكن لما يزوروها قط ! أعود و أقول أن لدي الثقة الكاملة في قدرة روائينا الفائقة على وصف الأماكن ببلاغة – نجيب محفوظ كمثال – ولكن هل هذا يكفي حقاً لخلق رواية جميلة ؟! وهل كتّابنا قادرون على ذلك , أعلم أنهم يملكون الموهبة العظيمة لفعل ذلك , ولكن الموهبة وحدها لا تكفي , من العسير أن نطالب روائينا أن يتوقفوا عن الكتابة ريثما يصلوا إلى معرفة الأسلوب الأمثل لكتابة رواية , ولكن أعتقد أن عليهم أن يعوا الحد الأدنى من ذلك وأن لا يكتفوا بموهبتهم , حتى لا نعود لنتساءل بحرقة لماذا لم يأخذ نوبل إلا نجيب محفوظ ؟ ولو تمعنّا في ما يكتبه نجيب محفوظ رحمه الله لوجدنا أنه بارع في وصف الأمكنة والصور , لذلك ليس مستغرباً أن يتم تحويل أغلب أعماله إلى أفلام سينمائية , إنه يخلق سينما من الكلمات , سينما بمؤثرات تخيلية وصوتية من الحروف , هو متمكن إلى الحد الذي نقل به حارات مصر القديمة إلى نوبل , أعود مرة أخرى إلى أمبرتو إيكو الذي يخبرنا أن " كثيراً من المؤلفين في سبيل أن يعطوا القارئ انطباعاً بلا محدودية المكان ينظرون إليه كما يقال من وجهة نظر نملة . فأنا أستطيع أن أمشي من هنا إلى هناك في بضع خطوات , لكن نفس المسافة – من وجهة نظر نملة – طريق طويل وممل . استخدمت Eliot هذا التكنيك في " Prufrock " بوصف الشوارع من وجهة نظر الضباب ! " أجزم أنه لا أحد من روائينا العرب خطرت له هذه الفكرة وصف الأشياء من خلال وجهة نظر الأشياء , قبل أيام قرأت مقالاً يتحدث فيه كاتبه عن انتقال الرواية من الغرب إلى الشرق , ولا أدري على ماذا استند كاتب المقال ليخرج لنا بهذا الاستنتاج المهم , أعلم أن الرواية العربية تحظى الآن بالاحترام ولكن ليس للحد الذي نقول فيه أن مركز الرواية انتقل من الغرب إلى الشرق . فلا يزال الطريق طويلاً و وعراً للوصول إلى هذه الغاية ! شكراً لكم وعذراً على الإطالة ..

2 تعليقان to “أحلام واقعية ,”

  1. يقول Farfalla:

    ما يدهشني في الروايات العالمية ( واعني بها كل الروايات التي كتبت خارج الوطن العربي)، مصداقية الكاتب تجاه نفسه أولاً ثم تجاه المتلقي..ومن جهة اخرى الصبر على الكتابة وانتظارها كـ مولود ،
    كتابة الروايات لدينا اصبحت مثل صناعة الغناء والسينما ، لذلك لا يهتم الكتاب ( والكاتبات) بالأثر البعيد الذي ستتركه الكلمات في نفوس القراء بل بالاثر السريع الذي ستتركه الرواية على حساباتهم البنكية !

    تدوينتك اثارت بداخلي كلام كثير لا تتسع له المساحة الالكترونية 🙂

    شكراً

  2. يقول Lament:

    حياك الله ,

    تظلمين روائينا الكبار حينما تقولين إنهم لا يملكون مصداقية , أعتقد أنه لدينا روائيين عظماء أمثال نجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف رحمهم الله وغيرهم كثير , القراءة لهم أمر مختلف , وأستطيع التحدث على وجه الخصوص عن عبدالرحمن منيف , فأنا قد قرأت أغلب أعماله , حينما تقرأين له تلمسين حقيقة مقدار التعب والجهد الذي يبذله , هناك روايات له أقل ما يقال عنها أنها تستحق نوبل بجدارة .. عبدالرحمن منيف مختلف حقاً ! لوحده يستطيع أن يحمل شعلة الرواية العربية بعيداً , و يرتقي بها إلى الأعلى ! يرحمه الله .. أغلب الروائين في الوقت الحاضر نعم هم كما وصفتي وأكثر , وأكثر .. وأكثر أيضاً , هم من السوء الذي يشعرك بالسخط , ولكن أعلم أنها مرحلة وستنتهي , وأعدك أنك ستقرأين أعمال حقيقية في المستقبل , نحن لكي لا نظلم أنفسنا لازلنا في البداية .. شكراً لك .

Leave a Reply

*
To prove you're a person (not a spam script), type the security word shown in the picture. Click on the picture to hear an audio file of the word.
Anti-spam image