تتعبني العاطفة, المحبة, أن أتعلق بالأشخاص ثم أتركهم. كان هذا يوماً عاطفياً؛ في منتصف الحصة الثانية جاء مسؤول من الإدارة و أعطاني جدولي الجديد وقال لي إنني انتقلت للمستوى الأعلى, شعرت بألم في قلبي بالذات حينما نظرت إلى أصدقائي الذين أعتدت عليهم طوال الأيام الماضية. يندر أن تجد مجموعة من الأشخاص تتأقلم معهم بسهولة وتشعر أنهم جميعاً قريبون منك, جاء ماخا* من آخر الصف وأخذ جدولي و نظر إليه, هزّ رأسه وقال مانسور! مانسور! وعاد إلى كرسيّه, أخذتْ جدولي جلاديس الفتاة من تشيلي وأخذه منها تاكا الياباني, كلهم نظروا إليه بحسرة ويحاولون أن يجدوا أي مادة مشابهة, ماكوتو الياباني الذي كان يجلس بجانبي قال Masok**, I sad I sad.  كان قلبي حزيناً, والأستاذة تنظر لي بحزن أيضاً وتقول لي منصور يجب أن تبتهج أن تقول هيييييه ليس أن تحزن, حتى أنا سأفتقدك لكن يجب أن تفرح. لكنهم أصحابي ولا أحب أن أتركهم, كيف لي أن أترك ماخا الذي لا أتخيل أحداً بالعالم يضحكني أكثر منه, بمجرد أن يتحدث بأي كلام عادي أضحك, كيف لي أن لا أرى تاكا الذي يشعر بالألفة تجاهي, أستطيع أن أفهمه من دون أن يتحدث, على أية حال لا يستطيع أن يقول أي كلمة بالإنجليزية, يحمل كمبيوتره المحمول ويكتب لي بترجمة غوغل كل ما يود قوله, بالأمس كان جالساً بجانبي وكتب لي أنت يا صديقي :Friendly, Kind, Nice, Honest, Optimistic.  الكلمات التي تعلّمها للتو, لم أجد أحداً أكثر عاطفةً من اليابانيين. درس الأمس كان عن الأوصاف, سألته تاكا, صف لي أمك, كتب لي أمي دافئة. نظرنا إلى أعين بعضنا و كنا على وشك أن نبكي أنا وهو. هؤلاء أصدقائي الذين آخذ أغلب الدروس برفقتهم, هناك من أحضر معهم حصة واحدة في اليوم, مثل إيلدر, الطيار, الذي يأتي برفقة زوجته بارعة الجمال ماريّا غابرييلا, لا يمرّ يوم دون أن أتحدث مع إيلدر, يوماً ما قال لي إن لديه صديق في البرازيل اسمه منصور, سألته هو من أصول لبنانية أو سورية؟ قال لي لا هو برازيلي. شعرت بالأسى على نفسي, حتى هنا أفكر بأصول الناس؟ لكننا نتعلم كثيراً من أبسط الكلمات. هناك باولو وكاميلو من إيطاليا, باولو رجل أعمال ويدرس الإنجليزية لتنفتح له فرص أكثر كما يقول, نتحدث كثيراً عن كرة القدم, عن ميلانو وروما, عن بعض الدول العربية التي زارها, و أضحك عندما يتحدث الإيطالية بلكنة إيطالية, كاميلو الرجل الذي لا يضحك أبداً, ويشعر بالتوتر طوال الوقت. كلهم أحببتهم ولم أرغب أن تأتي اللحظة التي يذهب كلٌ منا لمرحلة أخرى. بعد أن خرجنا من الحصة قاموا كلّهم بإحتضاني, تاكا كان يحاول حفظ هذه الكلمات طوال الحصة ليقولها لي, "إنه سيعمل بجهد أكبر ليلحق بي", ماكوتو قال لي أنا حزين ألف مرة, ماخا لم يقترب مني, لكن حينما خرجت لحق بي وقال لي أنه سينزل الآن للإدارة ليقاتلهم, إما أن تبقى معنا في المستوى أو يأخذوني معك, ثم قال الليلة سأشرب الفودكا بكثرة حتى أنسى هذا اليوم الحزين. قلت له أنا موجود هنا دائماً, قال لكن المشكلة أننا لن نأخذ الدروس سويةً ولن أسمعك تضحك. لكني ضحكت لأجله وخرجت لألحق بالباص الذي سيأخذني لصلاة الجمعة. هذه المرة الأولى التي أصلي فيها الجمعة هنا, لذلك لا أعرف ماهي طريقتهم وماهو الوقت وأي المساجد تصليها. على أية حال ذهبت للمسجد القريب من البيت الذي أسكن فيه, اسمه دار الأمان, دخلت في الساعة الثانية عشرة وربع, وكنت أعتقد أن الجمعة ستفوتني لأن أذان الظهر الساعة 11:55 صباحاً. حينما دخلت وجدت المسجد فارغاً, شعرت بالحيرة, قلت ربما لا تقام صلاة الجمعة في هذا المسجد, انتظرت قليلاً ثم خرجت و وجدت شاباً هندياً يقف بالخارج سألته هل تقام صلاة الجمعة هنا؟ قال نعم, الساعة الثانية ظهراً, قلت له ولكن العصر يأذن الساعة 1:34 دقيقة كيف لكم أن تصلّوا الجمعة الساعة الثانية؟ قال نجمع الصلاتين. على أية حال شعرت بالخجل أن أذهب إلى البيت وأعود عند موعد الخطبة, عدت لأنتظر في المسجد. عند الساعة 1 امتلأ المسجد قليلاً وقاموا بتشغيل البروجكتر الذي يعرض خطبة الجمعة لا أدري من أين, ربما من الهند أو مدينة أخرى في بريطانيا. كان الخطيب هندياً ويتحدث بالأردو لذلك لا يوجد أدنى أمل أن أفهم كلمة واحدة. خطب من الساعة الواحدة تماماً حتى الثانية تماماً. وأنا أغفو و أصحو طوال الخطبة, وبعد أن أنتهى الشيخ من خطبته عبر البروجكتر قام المصلّون في مسجدنا واصطفوا للصلاة, قمت معهم وأخذت ألتفت ليأتي أحد ويؤمنا للصلاة, لكن أحداً لم يتقدم وبدأو يصلّون, قلت لنفسي ربما هذا مسجد لمسلمين من مذهبٍ آخر, فالهنود طقوسهم تختلف. صلّيت الظهر و العصر, وبعد أن انتهيت تقدم رجل وبدأ يخطب للجمعة! خطبة غريبة أيضاً بالأردو وقليل من العربية والأنجليزية, وبالطبع لم أفهم سوا بعض الكلمات كهابي نيويير و إنا لله وإنا إليه راجعون والفاتحة التي بدأ خطبته بها, كما فعل الشيخ عبر البروجكتر. خطب لمدة 10 دقائق وكأنه يتحدث معهم, وبعضهم يتجاوب معه ويرّد عليه. أعرف أن هذا مسموح في صلاة الجمعة أن تُحّدث الإمام لكن وجدته غريباً بعض الشيء, على أية حال صلّى بنا الجمعة والعصر ثم عاد وخطب قليلاً, لكن لم أقوى على الصبر وخرجت, فهذا أكثر الأيام برودة في حياتي, وما من أمٍ تدفيني. 

* ماخا, من كازاخستان, اسمه الحقيقي ماخامبد والتي تعني محمد. لكنه يقول لنا نادوني ماخا. في اليوم الأول حينما شرح لي معنى اسمه قلت له إذاً أنت مسلم؟ قال لي yes yes but I am not big fan.  يحب أن يقضي ليله بالسُكر, في اليوم الأول سألته الأستاذة ماذا تحب أن تعمل في أوقات الفراغ, قال أشرب الفودكا و أسكر, وقام بتقليد مشية السكرانين في الفصل. دخلت إلى صفحته في الفيسبوك و وجدت أغلب الصورة في (بيت البيرة) كما يسميه, أو بجانب زجاجات الويسكي في السوبرماركت, أو يحمل زجاجة فودكا وينظر بقسوة. أخبرتكم أنه أكثر رجل أضحكني في هذه الحياة, لو كنتُ مخرجاً لقمت بتسجيل فيلم كامل عنه, ربما سأفعلها يوماً ما حتى لا أتوقف عن الضحك حتى البكاء كما هو حالي معه.
** ماسوك : هو الإسم الذي يناديني به ماكوتو.
*** هناك رجل آخر لم أكتب عنه, أستاذي ويل. كنتُ دائماً ما أواجه هذا السؤال حين التسجيل في المواقع –ليكون السؤال السريّ- : ما اسم استاذك المفضل؟ وأبحث عن إجابةِ غيره لأنه لا يوجد لديّ أستاذٌ مفضل, لكن بعد أن عرفت ويل تغير هذا المفهوم بالنسبة لي, لا يكبرني كثيراً بالعمر لكنه أحد أعظم الأساتذة الذين درسوني في حياتي.
– الصورة : الأول من اليسار: ماخا, في لقطة رومانسية له. الثانية: إيلدر بعنقه المكسورة وباولو. الثالثة: تاكا يحمل رسمته. الرابعة: كاميلو المتجهم أبداً. الصورة الأخيرة ماكاوتو.

Leave a Reply

*
To prove you're a person (not a spam script), type the security word shown in the picture. Click on the picture to hear an audio file of the word.
Anti-spam image