"في عقول الصغار السعيدة تقع المصابات بالترتيب المبسّط: يغيب أولا الجد والجدة، ثم الأب والأم. اذا كنت محظوظا، هكذا تتراتب الغيابات، بحيث يخفف من حزنك الشعور بأنهم عاشوا مدى أعمارهم". هكذا يكتب فيليب روث. في المأساة الكبرى، يحدث العكس تماماً: تغيب، أولا، نايلة الصغرى. وقبل ان تغيب، تقول لوالدها في مستشفى لندن: بابا، افعل شيئا، فأنا لا أريد ان أموت. تركت له درسا في مدى العجز البشري، وغابت. ثم غابت ناديا، وقد فقدت في الايام الاخيرة شعرها وشجاعتها ولم تعد تستطيع، من أجله، مقاومة البكاء. لم تكن تريد ان تفارقه. ثم غاب عز الغياب، مكرم، قبيل عودته الى هارفرد، حيث كان يفترض ان يكمل ما بدأه الأب. ثم حدث الغياب الذي طالما ارتعد من التفكير فيه: قتل جبران في بركة من الحبر والحرية. بعده، راح الشتاء يحيط بالعرين.
غمرت الثلوج الابواب وغطت النوافذ، وشلت الطرقات. ورأينا انحناءته اللطيفة، التي كانت جزءا من حضوره الكثير، تنكسر به وتلوي خلايا الصلابة فيه. لم يفقد في جبران بكره وحلمه بل استمراريته. قبّل جبين نايلة وناديا ومكرم مودعاً، لكنه عاتب قتلة جبران محترقاً: كيف لا تتركون لنا جبيناً نقبله؟
حرصت في الاشهر الاخيرة ان أقبل يده مسلما وأن أقبل جبينه مودعا. كنت أشعر انه في صمته وتعذبه في محاولة النطق يعطينا الدرس الاخير. أمضينا نصف قرن معه وهو المعلم. هو الاستاذ. هو الشاهق ونحن الظلال. كبرنا وانما فقط كظل في ظل قامته. وكانت ترعبنا فكرة الغياب. ستدخل القامة في الغروب ويتيه الظل في جمع نفسه. ستفقد الظلال أصلها.
في "الدرس الاخير" يفزع ألفونس دوديه عندما يبلغ مع أبناء صفه ان الاستاذ هاميل سوف يتوقف عن التعليم بعد اليوم، فيسأل نفسه، كيف سوف يغيب الاستاذ هاميل وأنا لم أتعلم شيئا بعد؟ عندما دبّ الشتاء في عرين بيت مري وأخذ الثلج يتراكم، كنت أعترف له في صمت انه لم يخيل لنا ان الدروس سوف تقفل ذات يوم. أضعنا الكثير من الوقت في ما لم نتعلم. وما حفظناه كان ضئيلا على ما علّم. لقبناه "المعلم"، ليس بمعنى صاحب العمل، بل بمعنى الاستاذ هاميل. أي الذي، عندما يتوقف، تدرك انك لم تتعلم شيئا بعد. الدرس الاخير.
الكِبَر لا يعلّم. كانت "النهار" مليئة بأشياء اليوم الصغيرة. غيرة وضعف ونم وضعف وأخطاء وخواءات عابرة وضعف وبشر ومتزاحمون وخائفون وضعفاء. وظل في الطابق التاسع، شاهقاً وصلباً، يحرك الحلول ويجمّد النوازع. كان لكل فرد في "النهار" دور ما، صغيراً أو أساسياً، أما هو فكان، هو "النهار". هو شجاعتها، وهو فكرها، وهو حمايتها، وهو ادارة صعوباتها، وهو تدبير كفافها، وهو من يحلم عن نفسه وعنا. لم يكن في "النهار" حلم سواه. لم يكن أحد يجرؤ على المغامرة. وظل دارتانيان وحيدا على فرسه، وحيدا يعبر الغاب. ولم يكن يتبقى سوى ان يكتب المسيو دوما، رواية جديدة، ليس فيها أربعة فرسان. فارس واحد وحصان قادر على حمل الفارس وخلفه الأميرة.
أينما كان، كان هو الرجل والمكان. يخطف الضوء والاعجاب والاصغاء. صحافياً ووزيراً وسفيراً ونائباً ومحاضراً. كم كان حضوره كثيراً. كم بسببه حزنت الناس لأن الشرط الماروني أغلق دونه باب الرئاسة، من دون ان يفرض ألق غسان تويني وآفاقه وسعة عالمه.
كنا قريبين منه الى درجة أغفلتنا عن كونه مجنحاً. لعن الله الإلفة كم تخفي من دلائل العلو. لم ننتبه انه لم يكتب مرة عن مصابه ولم يئن بجروحه. لم يتبذل للحياة، ولا تبذل للموت. عبر بهما واليهما، كما تعلم في الفسلفة اليونانية وفي الكنيسة، التي كاد يكون حبراً من أحبارها، أنهما خلطة الوجود. كلاهما طريق مفض الى حتمية الآخر، الحياة تلد الموت. وقد ولدت له موتا كثيرا.
لكن، فقط، عندما لم يعد في امكانه ان يكتب افتتاحية الاثنين او حتى ان يمليها، تعثر شخصه المتنوع والمتفرد والحالم والشجاع بجفاف الجسد وهشاشة العضل والعظام. بدأ هذا عندما أبلغ بأكثر شيء أخفاه: ان يكون هو، قد دفع السجن ثمن الحرية، فيما سوف يدفع جبران في زمن القتل شبابه ثمنا لها. شعرنا ان أعمدة الكاتدرائية التي طالما ساندها بكفتيه، سوف تبدأ في التشقق. لقد جربته الحياة بأقصى احجياتها: اعطته اجمل ما عندها، وتركت الموت يأخذ منه اجمل من عنده.
كان انطون تشيكوف يقول لكاتب شاب، نصيحتي ان تكتب. اكتب. واستمر تكتب الى ان تلتف اصابع يدك على بعضها. وبعدها حاول ايضاً. كان تشيكوف طبيباً، فكان يعرف ان الاصابع تطبق على نفسها عندما يعتي عليها العمر. وفي الاشهر الاخيرة كنت ارفع يده لأقبلها، فيداً منقبضة ألقى. لا افتتاحية الاثنين بعد اليوم. وسوف يأخذ المعلم معه الدرس الاخير.
كان قائد الفرقة الذي يعرف دور الوتر اكثر من صاحب الكمان. ويعرف متى العلو ومتى تقرع القرع ضرباً سريعاً. هو الادارة وهو التحرير وهو نوعية الورق. وهو يسدد الديون عن الكتّاب المسرفين في جهل الحساب. يقول الفونس دوديه: "والآن ادركت لماذا جاء شيوخ القرية وجلسوا هناك، في آخر الصف. لأنهم شعروا بالأسف لكونهم لم يحضروا صفوف الاستاذ هاميل اكثر. كانت هذه طريقتهم في ان يشكروا الاستاذ على اربعين عاماً من الخدمة الامينة، وفي اظهار إخلاصهم للوطن الذي لم يعد وطنهم".
خاف التلميذ دوديه ان يطلب منه الاستاذ هاميل، ان يسمع ما لم ينجح ابداً في حفظه: اسم الفاعل! دعاه الاستاذ الى الوقوف: "لن اؤنبك هذه المرة، لانك تشعر بالذنب بما يكفي. هل ترى الآن كيف كنا نقول لانفسنا: تباً. أمامنا الكثير من الوقت. سوف اتعلم الدرس غداً. واليك ما هي النتيجة الآن. آه، هذه هي مشكلة اهل الالزاس الكبرى: يؤجلون التعلم الى غد. لكن لست وحدك ايها المسكين الصغير. جميعنا لدينا الكثير مما نندم عليه".
لم يكن المعلم يعطي الدروس لنا وحدنا. صف صباح الاثنين كان للعموم: درس الوطن والحرية: حاذروا فقد سقط من حولكم الجدار. حاذروا فالسقف ينهار فوق الجميع. حاذروا فالعسكر يكرهون الحريات ويبنون السجون للرأي والنقاش. كان معجباً، اكثر من اي احد آخر، بالاحرار الذين اختلف معهم في الرؤية الى الوطن: موسى الصدر وكمال جنبلاط ورشيد كرامي. هل هو القدر ام التلاعب به؟ ان يغيب الثلاثة في حرب واحدة على لبنان.
كان يسميها "حروب الآخرين"، ويأبى ان يكمل العنوان: "بأدوات محلية ساقطة وايد لبنانية رخيصة وقلوب كافرة بالارض". تجاهل ما كان يروي لنا عن السبوت السود والرش على جدران الباشورة وحواجز البربير، خوفاً من ان ينكر وطنه، فضّل النكران عن شعبه. لم يصدق يوماً ان اللبنانيين الذين انتخبوه ابن 25 عاماً اسقطوه ملكاً ابن اربعين. كان لبنانه كذبة جميلة: جورج شحادة وصنوبرات بيت مري في نسائم المساء، وحوارات ظهر الاحد. عاشق الاوطان هو ايضاً لا يدرك انها مرضى بشعوبها.
"هل سوف يفرضون على الحمام ايضاً ان يهدل بالالمانية" يتساءل دوديه، وهو يتأمل الاستاذ هاميل يجمع اوراقه وقد ارتدى بذلة الاحد، بدل ثياب الاسبوع: "كيفما تطلعت، رأيت الاستاذ هاميل ساكناً يحملق في شيء ثم في آخر، كأنه يريد ان يثبت في ذاكرته صورة الصف، تخيّل. لقد ظل هناك في هذا المكان طوال اربعين عاماً، حديقته الصغيرة خارج النافذة وتلامذته امامه. فقط الطاولات والمقاعد حفت، لكن أشجار الجوز في الحديقة تباسقت والعريشة التي زرعها تسلقت الجدار وحدائد النافذة حتى السطح. كم كسر قلبه ان يودع هذا المشهد. كما اذكر ذلك الدرس الاخير.
كان ايضاً المعلّم الاول والمعلّم الاخير. وكان حضوره كثيراً، في الصحافة في اللغات في الثقافات وفي الرفعة. قال تشيكوف للكاتب ايفان بونين في درسه الاول له: "لا تدع يديك تخملان. اكتب طوال الوقت طوال حياتك". ثم قال: "لماذا تعتقد ان تولستوي يمتدحنا؟ لانه ينظر الينا كأطفال. كل ما كتبناه لعب اطفال بالنسبة اليه".
عندما كنت شاباً وكان في ذروته ملكاً، كان يصل صباح الاثنين الى "النهار" ويتصل بي من الطابق التاسع: "هل قرأت الافتتاحية؟ عجل اقرأها. انا احاول ان اقلد انشاءك". واضحك من نفسي في الطابق الثاني، قائلاً: "ايها المعلّم. هكذا كان تولستوي يسخر من مقلديه".

لا يمكن إضافة تعليقات.