يقف الرجل العجوز على رصيف ميناء بيروت ، كأنه يمتلك المكان . أو كأنه تعب ، ويريد أن يساوم على بيعه . ليس لأي كان . وإنما بحار شاب ، يسلمه إياه متضمنا كل شيء : حر الصيف ، وموج الشتاء ، وذكريات المرافئ عندما يطلع عليها الصباح ، ومعه طيوره ، مليئا بضوضائه وفوضاه . ومعه المسافرون يستعدون للنزول ، وهم يتمطون كالقطط من بقايا السهر . مسافرون بلا أحلام . في السفر لا يحلم الناس . يقرأون برنامج الجولة التالية ، ثم يودعون في الذكريات برنامج الأمس . ويدعون السرور . والبعض يتظاهر بالسعادة ، وكأنها جزء من السعر المخفض .
يقف الرجل العجوز مستندا إلى جدار عجوز ، ومهمل . كلاهما يسند شيب الآخر وبقاياه وكرامته ورعبه من السقوط وحيدا ، لا ذكريات تلمه ولا شباب يهرع إليه . في الماضي كان يبحر ويعود ولا ينتبه إلى وجود هذا الجدار المبقع . كان يسافر إلى ميناء ، ويعود من موانئ كثيرة . يرى الوجوه ، ويسمع اللغات ، ويألف غربة الأمكنة حتى لا تعود غريبة ولا مفاجئة . ويألف العادات والطباع ، ويألف الرتابة ، ويألف النوم على سطح السفينة وخشبها المثقوب برذاذ الرياح المالحة ، أو جنون المطر .
البحار أحمد متقاعد الآن . لم يعد يحن إلى المرافئ الأخرى . لكن هذا الميناء ، هنا، هو الرصيف الذي دون عليه كل ذكرياته . حفر فوقه صورة المرأة التي أحبها ، ثم رمته إلى وحدته كما يرمي هو بقايا الخبز إلى السمك . صور الأصدقاء والملاحين و«الرياس» الذين ذهب كل منهم إلى مينائه ، في مكان ما . في نسيان ما .
هو ، أحب وحدته ، إلا من بضع تحيات هنا وهناك . تحية على بائع شراب السوس ، وتحية على المرأة التي لا تزال تكنس الدكاكين قبل وصول أصحابها . وتحية على الحمالين الذين يرثون آباءهم كما يرث روكفلر بنوك العائلة . الأكتاف الصامدة نفسها ، والحبال نفسها ، وتلك الانحناءة الأزلية التي تروي حكايات الحمالين من دون شعر أو موسيقى . ظهر وانحنى .
تصاغر عالمه . لم تعد دنياه البحر ، والمرافئ ، وأسراب النورس ، وضوضاء الوصول ، وقرقعة المراسي الثقيلة . لم يعد له سوى هذا الجدار المبقع . وله يدان معروقتان على ظاهرهما وعلى راحتيهما . مثل وجهه معروقتان . والسفن تمر بعيدة عنه . وحده العمر يمر ملتصقا به . هكذا يبدو من وجهه ومن ظاهر يديه ومن راحتيهما ، إذ يرفعهما بالتحية لبائع شراب السوس . لم تعد السفن تنتظره ولم يعد ينتظرها . وعندما تصفر علامة الوصول يعرف أنها لم تعد تقصده . لم يعد له سوى قليل من البر . البحر قد نساه .

سمير عطالله – الشرق الأوسط

لا يمكن إضافة تعليقات.