الرياض مدينة غامضة
" تحدث موكي عن الرياض لافتا إلى أكثر من سبب يجعل الرياض مدينة غامضة , الوصول إليها أمر في غاية الصعوبة، وينطبق هذا أيضا على باقي وسط الجزيرة العربية المعزول بفعل صحرائه التي لم يكن من الممكن اختراقها حتى سنوات قليلة.
لكن الشخصية الأسطورية للملك عبد العزيز القائد الكبير الذي نجح من خلال جهده الشخصي في أن يصنع في أقل من ثلاثين سنة مفاجأة جديدة، انطلقت من أرض الجزيرة نفسها وهزت العالم عندما أوصل الجزيرة العربية إلى الأضواء، وقرب إلى العالم الرياض موطن أسلافه ومسرح أعماله البطولية، هذه المدينة هي منذ سنة 1351هـ (1932م) عاصمة مملكة موحدة يسود فيها النظام وتغطي نحو ثلاثة أرباع شبه الجزيرة العربية.
وحتى سنوات قليلة ماضية لم يتمكن إلا عدد قليل من الأوروبيين الوصول إلى الرياض والإقامة فيها عدة أيام، وكان معظمهم من المستكشفين البريطانيين، وكما هو متوقع فإن بريطانيا التي تسيطر على بحرين يحدان شبه الجزيرة من الشرق والغرب – سوف تبدي أكثر من أي دولة أخرى اهتماما خاصا بمتابعة التطورات السياسية المحلية، وندين لفيلبي – الذي خلف الكابتن شكسبير الذي قتل في إحدى المناوشات بين الملك عبد العزيز وبين أعدائه المتحالفين مع الأتراك، بوصفه مستشارا لسلطان نجد آنذاك – بأول وصف كامل للرياض، والذي يعود إلى أخصب فترات نشاطه العلمي والاستكشافي، أي نهاية الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م).
تقدمت الرياض كثيرا في وقت قصير من معقل لسلالة ملكية فخورة بنفسها تبسط سيطرتها على المرتفعات الوسطى لنجد فقط، إلى عاصمة لمملكة مستقلة تغطي تقريبا كل الجزيرة العربية، لتكون على مستوى الدور الجديد، وهذا ما يمثله مجمَّع المباني الملكية الجديدة رمز ازدهارها.
في وقت قريب خصوصا بعد سنوات (1928 – 1930م) عند إدخال السيارات إلى البلاد، وحتى بداية ظهور النقل الجوي، ظل الغربيون يزورون الرياض دائما: دبلوماسيون وصناعيون، وخصوصا الأميركيين، وبعض الشخصيات السياسية، وعلى الرغم من ذلك فإن أكثر وصف تفصيلي هو ما كتبه فيلبي، بينما ظلت المادة التوثيقية المصورة نادرة نسبة إلى الصعوبات التي واجهها أولئك الذين حاولوا التقاط الصور، وحسب معرفة كاتب هذه السطور، لم تنشر مثل هذه المادة في سياق علمي وتوثيقي.
تقع مدينة الرياض في منخفض طويل يمتد من الشمال إلى الجنوب، تشكل فيه المياه الجارية من جبال الجبيل مجرى الشمسية، وجنوب المدينة مباشرة يرتبط مجرى الشمسية بوادي حنيفة الذي يستقبل معظم المياه من جبل طويق، وهو جبل ذو سطح مستوٍ عريض، وتشكل منحدراته الجانب الأيمن من منخفض الرياض، ويحتوي هذا الحوض الطويل على واحة شمالية قامت عليها مدينة الرياض وواحة ثانية ضخمة هي منفوحة، وهي غنية ببساتين النخيل وحدائق ومساحات صغيرة تزرع فيها الحبوب والخضراوات والفواكه (اسم الرياض يعني «الحدائق»)، وغرب هاتين الواحتين، وبمحاذاة أحد الأودية الذي يمتلئ موسميا بمياه الأمطار (الباطن)، توجد عدة واحات صغيرة، وتضم واحدة من هذه الواحات التي تقع على بعد ستة كيلومترات من الرياض، القصر الملكي الصيفي المعروف باسم «البديعة».
كل تجويف وكل متر مربع يمكن أن يوجد فيه الماء من الآبار أصبح مغطى بزراعة كثيفة دائمة، إذ إن كل المنطقة – بما في ذلك القطاع الشمالي من وادي حنيفة بقراه وأراضيه الصغيرة – مملوءة بالمساحات الخضراء مفصولة بعضها عن بعض بالصخور الجرداء لجبل طويق، وتشكل أرخبيلا من الجزر الخضراء في بحر من الصخور الصحراوية بنية اللون.
تقوم واحة الرياض على مساحة بعرض كيلومترين وطول 4.5 كم، وقد بُنيت المدينة في الجزء الشمالي (من الوادي)، والمباني الأنيقة مفصولة بعضها عن بعض بحدائق خاصة معتنى بها جيدا حتى الحدود مع الصحراء في الجانب الشمالي، وخارج الواحة في الصحراء نفسها، يرتفع مجمع المباني المهيب الذي يشكل مع القصر الملكي الجديد «المربع» وهذه هي العلامة الأولى للحياة التي يقابلها المرء عند دخول الرياض من الخليج وأيضا من مكة.
بنى الملك عبد العزيز قصور المربع في العصر الذهبي لحكمه بعد فترة قصيرة من ضم الحجاز سنة 1342 – 1344هـ (1924 – 1925م). إن السلام والاستقرار اللذين وفرهما الملك عبد العزيز لوسط الجزيرة العربية والحجاز بعد قرون من الصراع الدامي وغياب القانون أحدثا صعودا سريعا وغير متوقع في عدد الحجاج القادمين إلى مكة والمدينة، حيث كان الحجاج في ذلك الوقت مصدر البلاد الرئيس من الإيرادات، وفي ما بين سنتي 1346 و1351 (1927 و1932م) قام آلاف من العمال والحرفيين ببناء القصور والمنازل الجديدة، وعن طريق الشاحنات التي كانت جديدة عندئذ في الصحاري العربية، وصلت إلى الرياض مواد مثل الخشب والمنسوجات والسجاد والأثاث من كل الأصناف من أنحاء المملكة ومن بلدان ما وراء البحار، وقد اعتمد الملك عبد العزيز – المتمسك بأصالته – على العمال المحليين، ورفض محاكاة النظم المعمارية الأجنبية، ولذلك فقد احتفظت الرياض بشخصيتها العربية الأصيلة في أقرب مبانيها عهدا وأكثرها حداثة.
كانت مواد البناء هي المواد المستخدمة في أي مكان آخر في نجد وكذلك الأسلوب، جدران سميكة من الطين المخلوط بقش مهروس تقوم على قاعدة من الحجر ربعت ودفنت على عمق عدة أمتار داخل الأرض أساسا قويا، وتوجد عوارض خشبية تقوي الجزء الداخلي من هذه الجدران أفقيا كل 60 أو 70 سنتيمترا، والعناصر الإنشائية أيضا من الخشب وكذلك سقوف الحجرات وأرضياتها مصنوعة من ألواح الخشب المرن مرصوصة بعضها بجانب بعض ومغطاة بفرش من القش، وتأخذ الزخارف شكل تصميمات هندسية بسيطة محفورة على الجدران المبيضة التي تظهر بخلفية صفراء، وقد تصل هذه الإنشاءات البسيطة إلى ثلاثة طوابق ونادرا ما تكون أربعة ويتفاوت مظهرها بين القوة والفخامة والرقة والأناقة.
والزخارف الخارجية المستخدمة غالبا هي القنوات على شكل أنابيب خشبية طويلة لتصريف مياه الأمطار بعيدا عن المبنى، والأمطار التي تحتاج إليها تلك المنطقة الصحراوية تشكل أيضا خطرا حقيقيا على المباني التي تميل إلى الذوبان تحت الانهمار الشديد للأمطار شبه الاستوائية، والتي هي لحسن الحظ غير مألوفة في نجد، ومن المثير جدا مشاهدة وصول فرق العمال بعد انتهاء هطول الأمطار وهم يقومون بفحص الجدران والمصاطب وإصلاح التآكل والأضرار التي سببتها مياه الأمطار بطين جديد.
يوجد جدار متصل مهيب بسماكة عدة أمتار وبمتوسط ارتفاع عشرة أمتار على الأقل، يحيط بمنطقة مستطيلة بطولة 1200 متر وعرض 400 متر، وداخل هذه المنطقة توجد قصور الملك وقصور عائلته وأجنحة الإقامة الخاصة بحاشيته الكبيرة، وتشتمل على غرف الاحتفالات والاجتماعات والمستودعات والثكنات وكل الخدمات المنزلية، بما في ذلك مولد الكهرباء.
وتنتصب أبراج المراقبة بارتفاع 15 – 20 مترا، بناء على موقعها، وتوجد على مسافات مناسبة في السور والمحيط، لتجعله مثل التاج على الجانبين الشمالي والغربي ويواجهان الصحراء المفتوحة، وهناك أبراج أخرى، أكثر انخفاضا وصلابة، تدافع عن المداخل.
عندما يصل القادم من جهة الشمال الشرقي فإن أول ما يراه أبراج المراقبة الشمالية التي تواجه السهل الصحراوي العاري، وهو منظر مؤثر، ويطل الجانب الشرقي على ميدان كبير حيث توجد مجموعات من البدو يحملون عرائض وينتظرون بصبر للدخول على ملكهم، أثوابهم لا تختلف كثيرا عن أثواب أسلافهم قبل ألف أو ألفي سنة، وقد بنى لهم الملك عبد العزيز ولمطاياهم حوضا طويلا مبطنا بالإسمنت يملأ بالماء باستخدام مضخة تعمل على الطاقة الكهربائية لتوفير الماء بسهولة.
وتوجد غرف للضيوف خارج الجدار المحيط بمجمع القصر، وهي مفصولة عن الجدار الجنوبي بممر ضيق، وتعرف بقصر الضيوف، يتألف هذا القصر من ثلاثة طوابق، وهو مجهز بأبراج متماثلة، وباحتين داخليتين كبيرتين، وعشرات من الغرف المؤثثة تأثيثا فاخرا مغطاة بسجاد رائع. ينزل هنا ضيوف الملك عبد العزيز، بما في ذلك الأجانب الزائرون وغير الزائرين والوزراء والشيوخ والرسميون الآخرون مع موظفيهم.
والمباني الداخلية للقصر الملكي كما هو متوقع، مغلقة أمام الغرباء، وخصوصا أمام الأجانب، سوى في حالات الاحتفالات أو المقابلات الملكية الرسمية، حينئذ يؤخذ الضيف عبر سلسلة من السلالم والممرات مرورا بحرص القصر بزيّهم التقليدي الموحد الرائع، إلى قاعة الاستقبالات الضخمة المتناسقة والمضاءة بنوافذ عريضة محمية بشبك من الحديد. وعندما يتاح للمرء الدخول إلى مجمع القصر، فإنه يعجب بالبراعة، وبالخيال الواسع الذي أبداه المعماريون في ابتكار مثل تلك الزخارف الغريبة في الساحات والسلالم والأبواب والمصاطب المرتبة بحيث تربك المرء أول وهلة، والصفة المميزة الرتيبة لطراز المبنى ولأساليب البناء ولعناصر الديكور محيدة بنشر الكتل وبانعكاسات الضوء والظلال.
إن التأثير الكلي لا يُنسى، وجوّ التباين الذي يزداد بفعل خليط من الأزياء الموحدة الرائعة التي يرتديها حراس القصر من ناحية، والملابس المتجهمة والأنيقة التي يرتديها كبار السن والشيوخ والاحتفالات البسيطة من ناحية أخرى.
تمر السيارات التي تزور القصر من خلال بوابة ضيقة يحميها برج ضخم في الركن الواقع إلى الجنوب الشرقي. ويعلو هذا البرج – مثلما هو الحال في كل النقاط المرتفعة في المباني – نوع من القوائم التي تتدلى من كل منها لمبة إضاءة كهربية عارية. وخلال الليل تضاء كل باحات قصر المربع على نحو رائع لمساعدة الدوريات الليلية. ويتذكر الملك عبد العزيز كيف أنه بأربعين رجلا تقريبا وتحت جنح الليل استعاد قصر عائلته في وسط الرياض (الصحيح 63 رجلا)، وهو حريص على تجنب تكرار ذلك الحدث ضده. ويتجاوز عدد حراس القصر المختارين بعناية خمسمائة رجل.
تفوق معماريو القصر وبُناته ليس فقط في الإنشاءات العسكرية والدفاعية، ولكن أعطوا أيضا اهتماما كبيرا ومهارة لزخرفة الداخل. وهكذا يمكن أن نعد واحدة من ساحات قصر الضيوف مثالا ممتازا من نوعها، ويعطي انسجام أجزائها تأثيرا يكون في البداية متزامنا ولكنه هادئ ومتوازن، وتضفي فكرة الفتحات الثلاثية المتكررة بين أعمدة الأروقة في حافة السقف اللطف والأناقة. وإذا ما وضع المرء في الحسبان بساطة الوسائل التي استخدمت، وصعوبات البناء بالطين والجبس والخشب، في مثل تلك المباني العالية والرقيقة، فإنه يزداد تقديرا للمعماريين العرب. ويزداد ذلك عندما يلاحظ المرء عن قرب أنه لا يوجد جدار واحد رأسي تماما أو باب أو نافذة مستطيلة تماما ولا زوج متماثل من الأقواس، هذا الاختلاف وعدم التماثل ينطبق أكثر على الزخارف الداخلية وعلى نظام تمديد الأسلاك الكهربائية الذي يتألف من أسلاك ممددة على الجدران.
والغرف مزينة ببساطة بدوية تقليدية حيث لا وجود لأي أثاث إلا ما تحتويه خيمة بدوية، والأرضيات مفروشة بحصائر بسيطة من جريد النخل مغطاة بسجاد فارسي رائع، وهو في العادة ذو قيمة كبيرة ويوضع السجاد واحدة فوق الأخرى بحيث لا يستطيع الضيف حقيقة أن يقدر جمال كل واحدة منها لأنها موزعة بالآلاف في كل مكان من القصور الملكية، فهي تشكل جزءا من ثروة الملك عبد العزيز المثيرة للإعجاب.
وقطع الأثاث الأخرى غالبا ما تتألف من صفائح البترول الفارغة المغطاة بمواد ملونة كطاولات صغيرة لصينيات الشاي وتستخدم مساند للاتكاء عليها، والجلوس عادة يكون على السجاد مباشرة. بعض الغرف فيها كراسي بمساند للذارعين بدلا من صفائح البترول المعتادة. أما في قاعات الاستقبال – بما فيها تلك التي يقابل فيها الملك شخصيا الجمهور – فهنالك الكراسي الأوروبية التي اصطفت على طول الجدران تحت مرايا جدارية كبيرة مزينة بكتابات عديدة وتصميمات زهرية بحيث لا يمكن استخدامها كمرايا، وتصبح كأشياء للزينة. وتوجد في الغالب ساعات بندولية من القرن التاسع عشر، وهي ذات قيمة كبيرة في منطقة تعد الساعة فيها نوعا من الرفاهية، ويجتمع وجود الغبار وتكرار حدوث العواصف الرملية إلى تعطيل عمل ساعة الجيب أو ساعة اليد، ولا يوجد أي نوع آخر من الأثاث، كما لا تستطيع الأرضيات على الأرجح، تحمل وزنها. وتستبدل في الحياة المنزلية البسيطة في نجد، بخزانات الملابس كُوى (تجاويف) في الجدران أو بصناديق لحفظ ممتلكات النساء، والطاولات غير ضرورية، ما عدا الأجانب الذين توفر لهم في قصر الضيوف، لأن الصواني الضخمة التي يأكل عليها المرء مع الجماعة، والتي توضع على السجاجيد ذات ارتفاع كافٍ، أما قطع الأثاث التي تستخدم لأغراض جمالية كالمرايا مثلا فهي محرمة، حسب التقليد الإسلامي المتبع في نجد (ليس صحيحا ما ذهب إليه المؤلف)، وقد تم إدخال بندين فقط من بنود التقنية الحديثة: الإضاءة الكهربية المنتشرة جدا، ويتم إنتاجها بواسطة المولدات التي تعمل على الزيت أو الكاز (الكيروسين)، والتليفون، وتمارس النظافة الشخصية بوسيلة الدش البدائي المكون من أباريق نحاسية ضخمة لتجميع الماء للاغتسال، وأباريق من النحاس للوضوء والتدابير الصحية في الحد الأدنى "